إثارة الجدل والتضخيم الإعلامي… سجّلنا الضحايا وتغاضينا عن الجاني.

جورج كلّاس*
تترافق الأزمات السياسية الداخلية، التي غالباً ما تتطور إلى نزاعات متعدّدة الأسباب ومتشعّبة الاستثمارات، مع نهج بعض وسائل الإعلام بافتعال إشكالات مبنيّة على تباينات، يجهد بعض الإعلاميين لاستخدامها بقصد تعميق الفجوات بين الأطراف من خلال افتعال إشكالات لفظية تؤدّي إلى حروب كلامية يعزِّزها السعي إلى تحويل النقاش من فعل التحاور المعرفي إلى عملية الصراع الاستعراضي واستثمار التناقضية النقاشية بين أطراف الكلام، بما تتطلبه عملية الجذب من مؤثرات تحفِّزُ المتابعين على الاصطفاف، فيتحوّلون من جمهور مشارك ومتفاعل إلى ضحايا منفعلة ومتأثرة بهندسة الجدل القائمة على فنيّة توظيف التباينات واعتماد أسلوبية التمايز بين الأبيض والأسود والتركيز على التناقضية النقاشية، وكيفية إنعاش الجدل من خلال تحريك الجمر والنفخ في الرماد وإيقاظ دفائن الذاكرة، بما يتناسب وهدفيات الإعلام التسليعي والترويج لنمطيات البرهنة والتخطئة وإبراز المهارات وإدارة الخلافات بما يخدم القصد من الجدل الذي يتحوّل من افتعال تباعدات إلى إحداث إشكالات، ينجح الإعلام في تظهيرها وتأطيرها بما يخدم الإعلام الأسود الذي يعمل لإغراء المتحاورين ويحوّلهم إلى مصاف النجومية، لمجرد أنهم ناقشوا وخالفوا وعارضوا ورفعوا الصوت وسبق كلامهم الجسدي لفظياتهم الفراغية التي لا يحلُّ شيفراتها غير متقلبي الأدوار وأصحاب الكتف الثالثة الباحثين أبداً عن دور مهما كان وضيعاً.
فالأخطار التي يولدها الجدل الصدامي تحتم السؤال عن المرجعية الإعلامية ودورها في توفير الحماية المعرفية، بعد الابتعاد عن الواقعية والتنكر للعقلانية وإغماض العين عن الموضوعية. وينسل من الكلام عن مسؤولية الجدل الذي يقع في غير موضعه وزمنه، التركيز على فنّية تحديد الموضوع الجدلي واختيار الأشخاص واعتماد التعادلية بالمعرفة والقدرة على إدارة الوقت وتوزيع أجزائه وفق تعادلية الفرص، مع ما يستوجب تمتع الإعلامي بالقدرة على الاستفزاز اللطيف والتذكير وإظهار براعته وثقافته وقدرته الاحترافية على الإحاطة بالموضوع أفقياً وعمودياً، ما يعزز رصيده لدى المتابعين ويبقيه في دائرة العدالة الإعلامية، وتأكيد دوره كحكم في فنية التقديم والاستخلاص والاستنتاج والختم، بما يخدم إبراز إفرازات الجدل والتوقعات المنتظرة من التأثيرات وترجيعات صدى المنازلات الجدلية وما يليها من توقعات وتحليلات وارتقابات، وما تفرزه من تنبؤات قاتلة للإعلام وصنوفه الجدلية الاستعراضية، حيث يجهد الضيف، الملصوقة به صفة خبير استراتيجي، للتدرّج من إيهام المتابعين بالخصوبة، وادعاء المصدريّة، والإيحاء بالموثوقية، بما يشي بأن بعض الإعلام يتأرجح بين أن تكون له رؤية وأن يستحضر الرؤيا من خلال استضافة ومحاولة صناعة نجوم واستنطاقهم بما قد يعرفون وما ليس لهم القدرة على فهمه.
ولعل أكثر التداعيات بروزاً في مقاربة الفرق بين الرؤية والرؤيا في تجليات صناعة الإعلام الحواري، هو الانحدار من درجات رصانة الإخبار وتقديم التحليلات المدعمة برؤية وإقناعات، إلى دركات التوهّمات والتركيز على النيّات بدل المعلومات لتسجيل سبقيات إيهامية على حساب الحقيقة والمعقولية التحليلية التي يعوزها إعلام الاستضافات، وتفتقدها منصّات صناعة النجوم، الذين ما إن تستضيفهم محطة حتى يتخرّجوا بلقب خبير استراتيجي كفيل بتعبئة فراغات الزمن التلفزيوني والإذاعي، ضحاياهم ثلاث: الوسيلة والجمهور والجودة الإعلامية.
*وزير سابق