تزايد حرق الغاز عالميًا: هدر 63 مليار دولار وتهديد كبير للبيئة وأمن الطاقة

فيما يتسابق العالم لإيجاد حلول لأزمة الطاقة وتقليل الانبعاثات الكربونية، جاء تقرير البنك الدولي ليكشف عن انتكاسة بيئية واقتصادية مقلقة. فقد سجلت كمّيات الغاز المحترق عالمياً في عام 2024 أعلى مستوياتها منذ عام 2007، فوصلت إلى 151 مليار متر مكعب، بزيادة 3 مليارات متر مكعب عن العام السابق، ما يمثل هدراً ضخماً في الطاقة تصل قيمته إلى نحو 63 مليار دولار.
ويشير تقرير “الرصد العالمي للحرق التلقائي للغاز” إلى أن هذه الظاهرة التي تتمثل في حرق الغاز الطبيعي أثناء استخراج النفط بدلاً من استخدامه أو معالجته، تُعد مصدراً خطيراً لانبعاثات الغازات الدفيئة، إذ تسبّبت بانبعاث 389 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون، منها 46 مليون طن من الميثان غير المحترق، وهو أحد أقوى الغازات المسببة للاحتباس الحراري.
ورغم أن بعض الدول نجحت في الحد من هذه الممارسات، لا تزال 9 دول فقط مسؤولة عن ثلاثة أرباع الحرق العالمي، رغم أنها لا تمثل سوى أقل من نصف الإنتاج النفطي في العالم. وتشير بيانات الأقمار الصناعية إلى أن كثافة الحرق – أي كمّية الغاز المحترق لكل برميل نفط منتج – لم تشهد انخفاضاً ملحوظاً منذ 15 عاماً، وهو ما يسلط الضوء على التحدي الهيكلي في التعامل مع هذه الظاهرة.
وأكد المدير العالمي للطاقة في البنك الدولي ديميتريوس باباثاناسيو ، أن ما يحدث “أمر مؤسف”، خصوصاً في ظل وجود أكثر من مليار إنسان يفتقرون إلى طاقة موثوقة، مضيفاً أن هذه الموارد كان من الممكن أن تُحوَّل إلى طاقة نظيفة تُسهم في سد الفجوة التنموية.
عضو البرلمان العالمي للبيئة الدكتور وفيق نصير أفاد في حديث إلى”النهار” بأن أبرز التحديات التقنية والاقتصادية التي تمنع تقليل الحرق التلقائي للغاز تتمثل في نقص البنية التحتية، فكثير من حقول النفط، وخاصة في الدول النامية، تفتقر إلى شبكات كافية لمعالجة الغاز المصاحب ونقله. ويتطلب تقليل الحرق إنشاء شبكات أنابيب ومحطات ضغط وفصل الغاز ومعالجته، وهي استثمارات ضخمة لا تتناسب أحياناً مع الجدوى الاقتصادية، وخاصة في الحقول الصغيرة أو المتناثرة.
صورة تعبيرية (وكالات)
كذلك هناك عوائق تنظيمية وضعف في التطبيق، يقول نصير، إذ إن غياب التشريعات القانونية والرقابة على الحرق أو ضعفها، أو وجود ثغرات في السياسات البيئة، يؤدي إلى استمرار الظاهرة. وغياب التنسيق بين وزارتي البترول والبيئة يضعف فعالية الإجراءات المطلوبة.
ويضيف نصير أن “هناك صعوبة في تمويل مشاريع خفض الحرق بسبب انخفاض هامش الربح، وخاصة عندما تكون كميات الغاز صغيرة أو متفرقة، كذلك تواجه البلدان التي تعاني من أزمات أو صراعات تحدّيات إضافية في تأمين التمويل اللازم. ومحدودية السوق المحلي أو الإقليمي، في غياب الطلب أو البنية التحتية لتصدير الغاز، يصبح جمعه واستخدامه غير مجدٍ اقتصادياً”.
أما في البلدان المتقدمة فتوجد أيضاً تحديات تقنية، يذكر نصير بعضها، وهي “تنوّع خصائص الغاز المصاحب بين الآبار، ما يتطلب حلولاً فنيه خاصة في قياس كميات الغاز المصاحب أو تحليله بدقة، ما يصعّب تطوير مشاريع فعّالة للاستفادة منه”.
ولتوازن الدول النامية بين تطوير النفط وتقليل الانبعاثات يجب بحسب نصير، “وضع سياسات واضحة للحد من الحرق، من خلال تضمين أهداف خفض الحرق والانبعاثات ضمن الخطط الوطنية للمناخ والتنمية وكذلك مراعاة تحقيق التوازن مع حاجات التنمية الاقتصادية. كما يجب تحفيز القطاع الخاص والاستثمار الدولي في مشاريع استعادة الغاز واستخدامه، والاعتماد على التمويلات الدولية والأدوات المبتكرة (مثل السندات الخضراء أو تبادل الديون مقابل إجراءات مناخية).
ويجب أيضاً دمج تقنيات خفض الانبعاثات وأهدافه ضمن اتفاقيات الاستثمار النفطي حيث يمكن فرض شروط على الشركات الأجنبية لتطوير حلول استدامة وتقليل الحرق في الحقول الجديدة واستثمار الفوائض المالية من النفط لتمويل مشاريع مستدامة، بحسب نصير.
في المقابل، أظهرت الدول التي التزمت مبادرة “الحد من الحرق الروتيني للغاز بحلول عام 2030” نتائج أفضل، إذ خفضت هذه الدول كثافة الحرق بنسبة 12% منذ عام 2012، مقابل ارتفاع بنسبة 25% في الدول غير الموقعة.
ولتسريع الحلول، يدعم البنك الدولي من خلال “الشراكة العالمية لتقليل الحرق والميثان” (GFMR) مجموعة من المشاريع التي توفر تمويلاً تحفيزياً ودعماً فنياً وإصلاحات سياساتية وتنظيمية. ومن أبرز الأمثلة على ذلك، استثمار 11 مليون دولار في أوزبكستان لرصد تسرّبات الميثان وإصلاحها، ما أسهم في تقليل الانبعاثات بـ9,000 طن سنوياً، مع خطط لزيادة الأثر إلى 100,000طن.
وعن التكنولوجيا الحديثة، التي تستخدم في خفض الانبعاثات، كتقنيات استعادة الغاز واستخدام الغاز في توليد الكهرباء محلياً، وتحويل الغاز إلى مسارات صناعية جديدة، أو إعادة حقن الغاز في الآبار وتحسين احتراق المشاعل بتطوير رؤوس مشاعل وكواشف احتراق حديثة، يعلّق نصير بالقول إنّ “التكنولوجيا هذه أثبتت خلال السنوات الأخيرة إمكان تقليل الحرق حتى 90% في بعض الحالات، وتظهر فعالية عالية، خصوصاً مع وجود إطار تنظيمي محفز ودعم استثماري مناسب لتنمية مستدامة”.