الفرز الخفي: ما هي آليات إدارة موجات النزوح في سوريا؟

علي البيش*
“علقوا ورقة على باب دكان أبي تقول: عليك إخلاء المحل خلال 72 ساعة، وإلا نعتبره متروكاً… لم نجد أي ختم رسمي، فقط تهديد”.
في حي السومرية الدمشقي، لا يشبه المشهد وعد “المرحلة الانتقالية” التي انتظرها السوريون منذ سنوات. فبين خيوط الكهرباء المقطوعة وصنابير الماء اليابسة، تتكشّف ملامح عملية تطهير طائفي صامتة، تجري تحت ستار فوضى ما بعد الأسد. لا قرارات رسمية، ولا بيانات علنية. فقط رجال مسلحون، يرتدون زيًا أمنيًا غير موحد، يطرقون الأبواب في الليل.
من سقوط النظام إلى قيام “الفراغ”
في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، سقط نظام المخلوع بشار الأسد بعد تفاهم إقليمي رُسم على عجل، والذي أفرز بدوره سلطة انتقالية يتسيّدها الرئيس المؤقت أحمد الشرع. وبينما كان السوريون ينتظرون عدالة انتقالية حقيقية، بدأت الأرض تنطق بلغة أخرى: تهجير، وتصفية، وإعادة فرز سكاني على أساس طائفي.
ما بين ضواحي دمشق، وقرى ريفي حمص وحماة، تنتشر عشرات الحالات التي تقاطعت شهاداتها رغم اختلاف الأمكنة. عمليات الفرز لا تُعلن، لكنها تُنفذ على الأرض بدقة. أما الفاعلون، فهم خليط من فصائل محلية، بعضها ارتدى زي الأمن، وبعضها الآخر تحرك باسم “أمن المنطقة”، وكلهم يشاركون في إعادة هندسة الخارطة الديموغرافية لسوريا الجديدة.
مشاهد الفرز: من قدسيا إلى أرزة
السومرية – دمشق | تموز 2025: “دخلوا فجأة، بسلاحهم، طلبوا براءة ذمة خلال 3 أيام. قالوا: بدنا نهجّركم متل ما هجرتوا إدلب”.
في حي السومرية، الذي يسكنه عشرات ألوف العلويين والمرشديين، فرضت مجموعة مسلحة حصاراً تاماً على الحي مطلع تموز/ يوليو. قطع الكهرباء، ومنع دخول الخبز والخضار، وإغلاق تام للمحال التجارية. حصل كل ذلك بلا أي وثيقة رسمية، وفقط بأوامر شفهية.
وثّق الناشط الإعلامي وحيد يزبك أن العملية تجري تحت أعين أجهزة الأمن المحلية، دون أن تُصدر أي جهة قرارًا علنيًا. وأقرّت الناشطة نور سليمان أن عملية التهجير الكامل لسكان المنطقة تجري على قدم وساق.
قدسيا وحيّ الورود – ريف دمشق | آذار 2025: “لأنك علوي، محدا بدو ياك هون، ولا حدا راضي يشتري بيتك، وإذا اشتراه، بيعطيك من الجمل أدنو.”
رغم ما كان يُعرف عن قدسيا بأنها نموذج للهدوء بعد المصالحات، إلا أن آذار / مارس 2025 شهد تصاعداً مفاجئاً في التضييق على العلويين. بحسب المرصد السوري لحقوق الإنسان، سُجلت عمليات تصفية فردية وتهديدات مباشرة للأهالي لدفعهم للخروج من منازلهم دون تقديم بديل أو إعطاء مهلة لتنظيم أمورهم قبل الإخلاء. ادّعى المسلحون أنهم من أهل جوبر الذين هجّرهم النظام السابق إلى إدلب، وأنهم عادوا ليجدوا مدينتهم قد سُوِّيت بالأرض، فلذلك قرروا استملاك مساكن الضباط الملاصقة لقدسيا.
حاول الأهالي جمع أغراضهم على عجل في شاحنات لنقلها إلى حي الورود مبدئياً، لكنّ جزءاً كبيراً من ممتلكاتهم تعرّض للسرقة تحت تهديد السلاح من الفصيل ذاته. حتى بعد وصول جزء كبير منهم إلى حي الورود، استمرت المضايقات اليومية. ومع أن بيوت العلويين هناك ملكهم الخاص ولم تُخصص لهم على يد الدولة السابقة، جاء الآن دور مسلحي مدينة قدسيا للتعرض لهم بدعوى أن بيوتهم بُنيت على أراض كان النظام السابق قد ابتزّهم ليبيعوها بأثمان بخسة منذ أكثر من خمسين عامًا.
نتيجة لذلك، تفشل باستمرار محاولات الأهالي لبيع بيوتهم حتى بثلث ثمنها، وحجة الشارين المحتملين: لا داعي لدفع ملايين مقابل ما سيحصلون عليه مجانًا إذا صبروا قليلًا. لقد حلّ الخوف محل القانون، وباتت سوق العقارات مغلقة أمام “غير المرغوب بهم”.
المعضمية والصبّورة – ريف دمشق | نيسان/ أبريل 2025:”الشاحنة كانت تنتظرنا. القرار ورقة A4 مكتوب عليها ‘إخلاء لأسباب أمنية’، ما عليها لا ختم ولا توقيع”.
طُردت عشرات الأسر، معظمها لعناصر جيش سابقين، من مساكنهم في المعضمية. فصائل محلية ترتدي زياً أمنياً مموهاً أبلغت الأهالي بالإخلاء القسري. استُوليَ على المنازل لاحقاً، دون تعويض أو تبرير.
حي القدم – ريف دمشق | شباط / فبراير 2025
“مزّقوا عقد الإيجار أمام جارنا، وقالوا له: روح على الساحل… هون ما عاد إلك شي.”.
في 13 كانون الثاني/ يناير 2025، رُصدت حملات مداهمات في حي القدم وريف دمشق، نفذها مسلحون ادعوا انتماءهم لهيئة تحرير الشام. اعتقلوا ما يربو على 30 شاباً في يوم واحد، ووُجد عدد منهم مقتولين على أطراف الحي في وقت لاحق من ذلك النهار.
وقد شهد الحي المعروف بتنوعه الطائفي، موجة طرد ممنهجة لمدنيين علويين في شباط. جرت العملية خلال ساعة واحدة فقط لكل منزل، دون أي فرصة لجمع الأمتعة، ودون عرض بديل.
ريف حمص وريف حماة | كانون الثاني/ يناير – حزيران/ يونيو 2025: “بيطلبوا منك الهوية، إذا قيدك بدلّ أنك ‘علوي’، بقولولك: اطلع فوراً”،
في قرى مثل أرزة، فاحل، شين، كفرلاها، بري الشرقي، سجلت أكثر من 80 حالة تصفية أو اختفاء قسري خلال النصف الأول من 2025. عائلات بأكملها تلقت تهديدات مباشرة، وشهادات من الأهالي تؤكد إحراق منازل مختارين سابقين، فقط لأنهم “فلول نظام”. دون أي معنى واضح لهذه التهمة سوى أن يكون المرء علويًّا.
تسنين (شمال حمص – كان،ن الثاني/ يناير 2025):
هُجّر الآلاف من القرية في حملة أمنية بمشاركة عدة فصائل مسلحة دوافعها طائفية. ورغم عدم وجود أرقام دقيقة، فإن “المئات إلى آلاف” هاجروا فعلياً متجهين شمالاً إلى الرستن وشرقاً إلى مناطق سيطرة الإدارة الذاتية الكردية.
ريف حماة الشمالي الشرقي (نيسان/ أبريل 2025)
في 12نيسان 2025، تعاونت مجموعة من البدو مع فصائل مسلحة على بسط سيطرتها على قرى عدة، بعد طرد السكان وتسليم أراضيهم لشركة استثمار زراعي قيل إنها واجهة لأحد الشخصيات المقرّبة من القصر الجمهوري، وذلك لاستغلالها في زراعة وإنتاج الفستق الحلبي غالي الثمن.
لتسهيل هذه العملية، عمدت الفصائل إلى إسكان عائلات من الرقة ومجموعة من عشائر البدو في البيوت التي طُرد منها سكانها العلويون، وعُهّدت إليهم أراضي العلويين الزراعية.
تبعاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان، هناك “أكثر من 20 قرية” علوية مهجّرة، ما يعني احتمالية نزوح بين بضعة آلاف حتى 50 ألف شخص على مدى سنوات الحرب الفائتة. أما في أبريل من عام 2025، ينطبق هذا على آلاف العائلات.
وفيما يلي قائمة بأسماء القرى التي تعرّض أصحابها ومزارعوها للتهجير على يد السلطة في دمشق:
البليل، الزغبة، الطليسية، معان، الفان الوسطاني، الفان القبلي، أبو منسف، المبطن، مريود، الطوبا، نوى، حلبان، الثورة، الشيخ علي كاسون، تلدهب، سباع، البويضة، الرويف، الشيحة.
ويُعتقد أن أغلب المهجّرين ذهبوا إلى أرياف إدلب الغربية أو إلى شرق الفرات لمناطق الحماية الذاتية الكردية.
ريف حماة الغربي (سهل الغاب)
متنين (يناير 2025): في 14 كانون الثاني/ يناير 2025، أحرق مقاتلون تابعون لحكومة أحمد الشرع حي العلويين كاملاً في متنين، وبذلك طردوهم وأقاموا عائلات أخرى مكانهم، مع تهديدات بالقتل إذا عاد سكانها. يُقدّر عدد المهجّرين ببضعة مئات.
أرزة / خطاب الجديدة (آذار/ مارس 2025): في ليلة الجمعة 31 يناير 2025، شن مسلحون هجوماً دامياً استهدف سكان العلويين في أرزة، وأسفر عن مقتل ما لا يقل عن 10 أشخاص بأسلحة كاتمة للصوت.
في 7 آذار/ مارس 2025، اقتحمت فصائل مسلحة قرية أرزة وارتكبت مجزرة راح ضحيتها حوالي 24–26 شخصاً، من بينهم نساء وأطفال، بحسب مصادر المرصد. تلا ذلك تهجير قسري كامل للسكان العلويين الأصليين، ومصادرة ممتلكاتهم. ثم غُيّر اسم القرية إلى “خطاب الجديدة”، وسط تفاخر المسؤول عن هذه العملية بفعلته على حسابه في “فيسبوك”.
العزيزية (أيار/ مايو 2025)
على خلفية حادثة أرزة، شهدت العزيزية موجة مضايقات وتهديدات طائفية. وفي 8 أيار 2025، تم توثيق تهديدات بإخلاء منازل السكان العلويين من قبل فصائل محلية في سهل الغاب. وقد استمرت عمليات التهديد والخطف وإطلاق النار طوال الفترة، أملًا بترهيب السكان لإخلاء المنطقة طوعياً.
تحليل: لماذا يحدث هذا؟
منذ سقوط نظام الأسد، دخلت البلاد في مرحلة فراغ سلطوي واضح، حيث فُكّكت البنية الأمنية المركزية التي كانت، رغم قمعها، تمسك بمفاصل الدولة. ورغم إعلان بعض الفصائل اندماجها في وزارة الدفاع التابعة للسلطة الانتقالية في دمشق، إلا أن مجموعات كثيرة ظلت تعمل على الأرض دون مساءلة أو مرجعية واضحة، ما فتح الباب أمام انتهاكات ممنهجة وغير مضبوطة، خصوصاً أن المناطق المختلفة الآن في سوريا خاضعة لسلطة أمراء قد يختلف أحدهم في سياسته التنفيذية عن الآخرين، ما يفسّر سبب تباين أساليب تعامل الجهاز الأمني مع المدنيين في مختلف مناطق البلاد.
في هذا السياق، بدأت ملامح ما يشبه “إعادة توزيع ديموغرافي” تلوح في الأفق. ويعاد رسم الخريطة السكانية للبلاد وفق قواعد طائفية قديمة، وكأن التاريخ يعيد إنتاج أكثر مراحله قتامة. فقد تحدّثت مصادر محلية عن قوائم مسرّبة لتوطين عائلات معينة في قرى مُفرغة من سكانها، مقابل تهجير منهجي لفئات أخرى. وذلك ضمن سياق محاولة سافرة لإعادة صياغة البنية الاقتصادية وتعديل طرائق توزيع الثروة لضمان أكبر قوة اقتصادية ممكنة لداعمي السلطة المؤقتة وعمودها الأمني.
الأخطر من ذلك أن عمليات التهجير هذه لا تستند إلى أي إطار قانوني أو قضائي. يجري كل شيء تحت شعارات فضفاضة مثل “الأمن” و“إعادة التنظيم”، و”تحقيق العدالة لسكان المخيمات” فيما لا يتسلّم المتضررون من هذه التصرفات سوى أوامر شفهية أو أوراق إدارية دون أختام رسمية، ما يعني غياب أي حق بالاعتراض أو المساءلة. هذا الإفلات من العقاب يشجع على تكرار الانتهاكات، ويزيد من تعقيد المشهد.
العواقب المحتملة
إذا استمر هذا النهج، فإن البلاد تتجه فعلياً نحو تقسيم غير معلن، وهنا تعود إلى الأذهان ربما خطة وزارة الداخلية الجديدة لإعادة هيكلة القوى الأمنية وتوزيعها على خمس مناطق أمنية مستقلة في سوريا. سينجم عن هذا التقسيم تفكك الجغرافيا إلى أقاليم طائفية تخضع لنفوذ فصائل متناحرة، وتُستبدل فيها مؤسسات الدولة بهياكل سلطوية محلية لا تلتقي إلا في عدائها المتبادل.
هذا الانقسام سيؤدي حتماً إلى ضياع ما تبقى من المواطنة السورية. فبدلاً من الانتماء إلى دولة جامعة، يتكرس الانتماء إلى الطائفة أو الجماعة المسلحة، وتُفكك الروابط الوطنية لصالح هويات ضيقة ومتوجّسة إحداها من الأخرى.
اقتصادياً، يعيش البلد حالة شلل شبه تام. المستثمرون المحليون والدوليون يفقدون الثقة يوماً بعد يوم باستقرار الوضع الأمني، والمنازل تُهدم وتُحرق أو يُستولى عليها بالقوة، والأسواق تغلق أو يُختزل ريعها ضمن جيوب أمنية مغلقة، ما يزيد من عزلة كل منطقة عن المناطق المحيطة بها.
ومع تصاعد مشاعر الظلم الطائفي، يصبح من السهل إيجاد تربة خصبة لزرع رغبة أبدية بالانتقام وجوع دائم لدى كل شخص ليسعى لتحقيق عدالته الخاصة بقوة ذراعه، ما يُنذر بعودة دوّامة العنف من جديد.
توصيات ملحّة
لمعالجة هذا المسار الخطير، هناك حاجة عاجلة إلى تدخل دولي متزن وفعّال. تبدأ هذه المعالجة بتشكيل لجنة أممية مستقلة للتحقيق في كل انتهاكات التهجير القسري التي جرت منذ سقوط النظام. كما يجب وقف الإخلاءات الفورية، وتثبيت حقوق الملكية عبر إعادة تفعيل مؤسسة الشهر العقاري والعقود والموثّقة التي تضمن للمواطنين أمنهم القانوني.
إلى جانب ذلك، ينبغي توفير حماية حقيقية للأقليات، خصوصاً في مناطق حمص وحماة نظرًا إلى التنوّع الشديد في هاتين المحافظتين، عبر نشر قوات رقابة محايدة، أو عبر ضمانات داخلية يُتوافق عليها ضمن حوار وطني واسع. ولا يمكن تجاوز الأزمة دون مشروع شامل لإعادة تعريف الدولة السورية، لا بوصفها حلبة تنازع طوائف، بل بصفتها دولة مواطنة تستوعب جميع أبنائها على قاعدة الحقوق والواجبات المتساوية.
وأخيراً، لا بد من برنامج تعويض وإعادة توطين عادل، يُنصف المتضررين من التهجير قبل وبعد سقوط نظام الأسد، وذلك ليعيد لهم شيئاً من الثقة بمستقبلٍ يُفترض أنه يطوي صفحة الحرب، لا يعيدها بصور جديدة.
الختام: سوريا لا نعرفها
ما بدأ ذات يوم بصفته وعداً براقاً بانتقال ديموقراطي، انزلق بصمت إلى كابوس جديد، تتوارى فيه الحقائق خلف دخان الشعارات. من السومرية في دمشق إلى أرزة في ريف حماة، تُرتكب انتهاكات ممنهجة دون شهود، وتُمحى قرى بأكملها من الخريطة دون أن تذكرها نشرات الأخبار. الضحايا لا يظهرون في الإعلام، ولا تصل أصواتهم إلى قاعات الأمم المتحدة أو إلى صفحات التحقيقات الدولية.
في هذا الظلام، تُرسم خرائط جديدة لسوريا لا نعرفها, لا بالانتخابات، ولا بالدستور، بل بالرصاص والتهجير. وإذا لم تُفتح هذه الملفات في وضح النهار، وبشفافية تليق بمستقبل ما بعد الحرب، فإن الحدود القادمة لن تُرسم بالحبر على الورق، بل ستُحسم ليلًا، على يد المسلحين، وبدم الأبرياء.
*باحث وناشط سوري
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.