من بلفور إلى داوود… المشروع لم ينتهِ بل تحول إلى شكل آخر

إسماعيل الجويم
بينما تتصاعد أعمدة الدخان في الجنوب السوري، وتحديدًا في السويداء، تتضح ملامح مشروع كبير لا يقتصر على قتال محلي، بل يندرج ضمن خطة إقليمية لإعادة رسم المشرق العربي على نحو يخدم مصالح إسرائيل أولًا، ويمنحها موقعاً مركزياً في شرق أوسط جديد تتفكك فيه الدول وتضعف به إرادة الشعوب.
الاشتباكات في السويداء بين فصائل درزية وقوات السلطة الجديدة لم تكن مجرد نزاع عابر، بل كشفت عن فوضى منظمة تستثمر فيها أطراف إقليمية، أبرزها إسرائيل، التي وجدت في هذه الأحداث فرصة ذهبية لإضعاف الدولة السورية وزعزعة ثقة المجتمع الدولي بها، عبر تصويرها كعاجزة عن ضبط حدودها واستقرارها الداخلي.
انسحاب قوات الدولة لم يكن تكتيكاً داخلياً، بل نتيجة ضغط إسرائيلي، تلاه دخول قوات عشائرية للدفاع عن البدو، مما عمّق الصراع. ومن داخل هذه الفوضى، تسعى إسرائيل بهدوء إلى تسويق “قوات سوريا الديموقراطية (قسد)” كبديل سياسي وإداري منظم، قادر على إدارة شمالي وشرقي سوريا، في خطوة مدروسة لإقناع العالم بأن الحلّ ليس في دمشق، بل في مناطق خارج سيطرة الدولة.
هذا التوجه يتقاطع مع مشروع “ممر داوود”، وهو تصور إسرائيلي يرسم ممراً يمتد من الجولان مروراً بجنوبي سوريا وصولاً إلى شمالها الشرقي حيث “قسد”، وينتهي في العمق العراقي، كممر آمن نحو نهر الفرات وما بعده.
إذا فشلت الوساطات واستمرت الاشتباكات، فقد تتحول السويداء ومحيطها إلى منطقة عازلة بحكم الواقع، مما يمهّد لتدخّل دولي تحت شعارات مثل “حفظ السلام”. لكن هذه التدخلات الناعمة ليست سوى غطاء لمشروع إسرائيلي قديم–جديد يهدف إلى خلق فراغات سيادية تؤسس لتقسيم وظيفي طويل الأمد.
إسرائيل تسعى لشرعنة وجود قوى غير سورية في الجنوب، وإبعادها عن يد دمشق تدريجاً، عبر الفدرلة بدل الاحتلال المباشر.
الهدف النهائي هو فصل الدولة عن حلفائها وقطع تواصلها الجغرافي، وتأمين الجولان بترتيب إقليمي جديد يخدم أمنها القومي.
“ممر داوود” ليس مجرد خيال، بل يعتبر مشروعاً فعلياً لجغرافيا جديدة تمتدّ من فلسطين المحتلة إلى نهر الفرات، على غرار سايكس-بيكو. لكن برؤية صهيونية تسعى إلى تمزيق الدول لكيانات مذهبية وعرقية ضعيفة، لا سند لها إلا في تل أبيب.
في هذا السياق، يظهر الدور التركي كقوة براغماتية تسعى لتحقيق مصالحها مع دمشق، وتأمين حدودها. فأنقرة تدرك خطورة تمدّد “قسد” وتفكك سوريا، لكنها تتحرك بدافع أمنها القومي، لا بدافع الحفاظ على وحدة سوريا. وإذا تحقق المشروع الإسرائيلي، فإن تركيا قد تجد نفسها أمام شريط حدودي جديد تسيطر عليه قوة مدعومة من واشنطن وتل أبيب.
لكن أمام دقة هذه الحسابات، يبقى العامل الحاسم هو إرادة الشعوب. فبعد السابع من تشرين الأول/أكتوبر، تغيّرت علاقة الشعوب العربية بحكوماتها، وتنامت روح التحدي والرفض للهيمنة. لا الضربات الجوية، ولا الفصائل، ولا غرف العمليات، قادرة على إفشال مشروع بهذا الحجم من دون وعي شعبي يتجاوز الانقسامات، ويعيد الاعتبار لفكرة الدولة الواحدة الجامعة.
إسرائيل قد ترسم الخرائط، و”قسد” قد تُعرض كبديل جاهز، وتركيا قد تناور بما يناسب مصالحها، لكن الكلمة الأخيرة ليست لهؤلاء… بل للشعب.
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.