إيران والشيعة: هل هناك صفقة قرن محتملة؟

ملاك عبد الله
سرعة جريان الأحداث في المنطقة والزّخم العالي لتتابعها، صحيحٌ أنّه يفتح الأفق على احتمالات صعبة ويعقّد المشهد، لكنّه على المقلب الآخر يزيده انقشاعاً ووضوحاً بعض الشيء، ما يجعل البناء على المستجدات لطرح بعض الأسئلة، والإجابة على بعضها الآخر، مسألة ممكنة بقدر معيّن في الوقت الحالي.
وبعد الحوادث الأخيرة في السويداء، والتمظهر الواضح لبنية النظام السوري الجديد، المُهدِّد بصيغته الضعيفة للأقليات المتواجدة في المنطقة، والذي يريد بسط السيادة من باب الإخضاع، كما بعد كل ما حدث في إطار السنتين الفائتتين ونتائجهما السياسية، خصوصاً في ما خصّ “محور المقاومة”، ستصبح الجرأة على طرح بعض الأسئلة المتعلقة بالتموضعات السياسية ضرورة بقاء وتطوّر، لا مجرّد تساؤلات مبعثرة في فضاء شرق أوسطي هش، ولا مجرّد نقاش مهم في الفكر السياسي هو أصلاً كان سابقاً لحوادث السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، من قبيل ما هي أفضل الطرق لمقارعة الوحش الصهيوني ولجم عدوانه، وهل فكرة تحرير فلسطين واقعية أم لا، إلخ… كما أنها أسئلة لا تدخل في بازار المنافسة أو الضغوط السياسية على طرف هنا أو هناك.
على أنّ البقاء لا يُبحث عن طرائقه بشكل ارتجالي أَو كردة فعل. ويجب ألا يبحث عنه بمنطق الهويات القاتلة، ومنطق الأقليات. هو في المبدأ لا بدّ من أن يكون جزءاً من مشروع عميق ومكتمل… لكن التنظير والمثل شيء، وإمكان تطبيقه وفقاً لماهية الواقع شيء آخر، بما يحمله هذا الواقع من تناقضات أصلاً، تتطلب من جديد تفكيك البنى السياسية والاجتماعية والسيكولوجية والدينية للمكونات الفاعلة في المشهد السياسي، وفهمها جيداً، واستشراف ما هو متوقّع منها، للبناء وفق مقتضياتها بما يضمن القدر الأقل من الخسائر السياسية، وبما يفتح الباب للمرونة السياسية بعيداً من الأطر الشعاراتية الثابتة.
عالم ما بعد 7 أكتوبر: طوفان حقيقي
بشكل لا يشوبه شك، يمكن القول إنّ السابع من أكتوبر، بتبعاته، كان تتويجاً لطوفان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، لا على مستوى المنطقة فحسب، بل على صعيد العالم، ولا على الصعيد السياسي فقط، بل على كل الصّعد من دون استثناء أي منها، بما فيها المعيارية والأخلاقية التي تُبحث فيها أسئلة الانطلاق من جديد… خصوصاً أننا أمام انهيار حقيقي للقانون الدولي الضابط للسلوك، والذي لم يكن قبل ذلك مفهوماً إنشائياً كما يعتقد البعض وإن كان ضعيفاً، بدليل لجوء الدول إلى إيجاد مبررات قانونية في حالات الانتهاك، منذ غزا هتلر بولندا عام 1939، إلى تسويغ احتلال العراق، وسوريا وليبيا وأوكرانيا وإيران…
عالم اليوم، بقيادة ترامب، ما عاد مضطراً لإيجاد مبررات واختراع أسباب، خصوصاً أن ترامب يحكم في ولايته الثانية لا الأولى، أي أنه ما عاد يخشى تقلّص عدد الناخبين، فتارةً يتصرّف عكس وعوده الانتخابية، وطوراً يحاول تكريس الشخصية الأميركية الترامبية في الحكم. وتكمن المفارقة الحقيقية في أن أميركا التي قادت النظام الليبرالي طوال الأعوام الماضية، هي اليوم ساخطة عليه أو تسعى الى تغييره. فما الذي يعنيه أن الشعب اختار حصراً الرئيس المحكوم بـ34 جناية؟ إما أن يكون في القانون الأميركي مشكلة، وإما أن الأميركيين فعلاً باتوا يفضلون رئيساً مجرماً على أي رئيس آخر.
وعليه، ما يجب أن نفهمه ونعيه جيداً، أننا أمام لحظة مفارقة تاريخية، تتطلّب “نفضة” حقيقية تجريها جميع المكونات في المنطقة، المستفيدة راهناً من التغيير الحاصل أو المتضرّرة إثره، لأن راهنية الاستفادة قد لا تدوم في ظلّ واقع ينذر بالمخاطر كما تدلّل على ذلك المعطيات. فإذا ما ضيّقنا زاوية النظر على الخريطة إلى الشرق الأوسط، فسنجد أن كلا من الأردن ومصر يعانيان من أزمات إقتصادية أعمق مما تبدو عليه، المغرب والجزائر في ذروة الحرب الباردة، السوادن وليبيا واليمن وغيرها في حالة انهيار، اسرائيل الدولة العلمانية تحكمها لأول مرة منذ سبعين عاماً نخبة متطرفة تشبه “داعش”، ولأول مرة تعاني من تهشّم صورتها دولياً إلى حد كبير، تركيا تعاني من صراعات داخلية كبيرة جداً وكذلك صراعات نفود، وإيران كذلك مع احتمال المواجهة مع الغرب وإسرائيل. وأما إذا اتسعت زاوية الرؤية، فإن العالم ككل يشهد زيادة قياسية في الصراعات المسلحة (56 صراعاً مسلحاً وهو العدد الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية)، وانهياراً جزئياً في منظومة الحد من التسلح بل عودة إلى سباق التسلح، عودة التجنيد الإجباري وتوسعته في أكثر من دولة، ارتفاع نسبة الانفاق العسكري، إعادة تشكل التحالفات أو توسعها، فشلاً في النظام الاقتصادي العالمي بحيث أن الدول الغنية نفسها يعاني كثيرون من مواطنيها من الفقر، توسع الاضطرابات في العالم بحيث كانت تنحصر سابقاً نسبياً بالدول الفقيرة، أما اليوم فهي طاولت كبريات الدول مثل المانيا وفرنسا وكوريا الجنوبية واليابان وكندا.. ناهيك بالتطورات التكنولوجية والتغيرات المناخية والديموغرافية وصعود الشعبوية..
غير أن كلّ هذه المؤشرات والتغيرات، وإن كانت مشابهة كثيراً للأوضاع السابقة للحروب العالمية، لكن الموانع لاندلاع حرب عالمية ثالثة أيضاً لا بأس بها (تشابك الاقتصاد العالمي، الردع النووي المتبادل…)، كأننا في منطقة البرزخ الطويل، أو في زمن الوحوش كما يسميه أنطونيو غرامشي: “الأزمة تكمن تحديداً في حقيقة أن القديم يموت والجديد لا يستطيع أن يولد، وفي هذه الفترة الفاصلة، تظهر أعراض مرضية كثيرة ومتنوعة، إنه زمن الوحوش”.
إيران و”حزب الله” والشعارات الأخلاقية
كان لا بدّ من كلّ هذا العرض السريع، للقول أنّ العالم يعاني من أعراض مرضية ستكون مزمنة، وجب البحث عن سبل تخفيف حدتها في ظل عدم القدرة على مقارعتها. وهو العالم نفسه الذي بات يفتقر إلى الضابطة، إلى الدرجة التي تغدو معها الشعارات الأخلاقية، تأريخاً من الآن إن شئنا، ساذجة. الجملة قاسية جداً، لكنها واقعية إذا ما أردنا عدم طمس ما تبقى من الأخلاقية، إذ كلّما تمكنت القوة غير الأخلاقية واستحكمت في مفاصل شتى، كلما أسس ذلك لهزيمة الأخلاق نفسها واندثارها.
وأقسى من ذلك بعد، ربما غدت الشعارات الحداثوية المتعلقة بإقامة الدول الوطنية السيدة الحرة المستقلة الديموقراطية… حتى هذه الشعارات ستغدو محلّ فحص عميق جداً يوماً بعد يوم. وهذه طبعاً ليست دعوة إلى الدول الثيوقراطية أو إلى تقويض المخرجات المهمة للحداثة من حيث الفكرة، بل للفحص العميق بمخرجاتها من حيث التطبيق والمآلات.
إيران، بغض النظر عن نياتها، دعمت قضية وطنية وأخلاقية مركزية. “حزب الله” في لبنان كذلك، دخل حرب الإسناد بالعنوان الأخلاقي العريض، وليس بأي عناوين دفاعية، ودخلها وهو يملك من المقدرات ما يجعله يثق بقدرته على الأذى العميق لا الانتحار السلبي، إلى أن تبين حجم الخرق الذي يحول دون ذلك. اليوم، يدرك الشيعة جيداً خارج إيران أن وجودهم مهدّد بفكّي كماشة، وأنهم محاطون ببيئة تحركها الدوافع القبلية بعد أكثر مما تحركها الدوافع الدينية، ولعل مفارقة نصرة المقاتلين في السويداء في مقابل الكُمون في ما خص القضية الفلسطينية تفصح عن الكثير في هذا الإطار. ويدرك النظام الإيراني أن قدرته على مواجهة اسرائيل وأميركا محدودة أيضاً، ولا داعي للتوسع في تبرير ذلك، وأنّ بلاده تعاني ما تعانيه في الداخل، فهل سيدفع ذلك إيران إلى إحداث تغيير ما يطاول فكر الدولة إن جاز التعبير؟ وهل سيكون لذلك تبعاته على “حزب الله” اللبناني؟ ربما، ما قبل حرب الإثني عشر يوماً، كان ثمة مؤشرات تصبّ في هذا الإطار.
إيران وأميركا: القادم مختلف؟
علي لاريجاني، مستشار المرشد الإيراني، في مقابلة تلفزيونية، ثمّ بعد ذلك في منشور على منصة “إكس”، في الأيام التي سبقت الحرب، يقدّم عرضاً كبيراً لأميركا، الشيطان الأكبر، في إطار المفاوضات معها، يخوّل الأخيرة الاستثمار في إيران بمبلغ يراوح ما بين ترليون و4 ترليونات دولار، أي بما يفوق ما وُعد به ترامب خليجياً. الأمر كان أشبه بصفقة قرن أميركية – إيرانية لو حدث، وتغيير إيراني هائل ونوعي في العقيدة السياسية، التي نحت منحى جديداً عندما لامست حدود الخطر الكبير، وهي الدولة التي لا تزال بكراً من حيث المعادن والصناعات، كما أنها الدولة التي تمثل نقطة ارتكاز مهمة في صراع الممرات العالمي بين الصين وأميركا، ما يعني أن ترامب لو كسب إيران، فإنه سيكسب دولة تدعم الممر الهندي لربط آسيا بأوروبا.. عدا المكاسب في إعادة إعمار إيران بعد رفع العقوبات.
التغير في العقلية السياسية ظهر أيضاً في المفاوضات الأخيرة نفسها. طلبت أميركا أن يكون التفاوض مباشراً. رفضت إيران. شكلياً، في عمان، كان وزير الخارجية العماني يجلس في غرفة تتوسط غرفة وزير الخارجية الإيراني عراقجي، وغرفة المبعوث الأميركي ويتكوف. يتنقل بين الغرف لإيصال الرسائل مدى ساعتين ونصف ساعة. لكن الأطراف الثلاثة، بعد انتهاء المهمة، التقوا بشكل مباشر وقوفاً لمدة 45 دقيقة في غرفة وزير الخارجية العماني. كانت تلك لافتة لها دلالاتها، تماماً كما كان لقصيدة “يا إيران الإلهية” التي أنشدها أخيراً محمود كريمي بطلب من المرشد الأعلى دلالاتها.
ترامب، الذي يهتمّ بالمصلحة الاقتصادية كثيراً، كان ليقرأ هذا المشهد من زاويتين: الأولى وهي أن العرض مغرٍ طبعاً، والثانية أن إيران ضعيفة إلى الحدّ الذي أجبرها على تغيير سياسي استراتيجي عميق. وبغض النظر إن كان نتنياهو هو من جرّ ترامب إلى حربه على إيران أم لا، فإن قصر مدة الحرب بعد صمود الدولة الإيرانية وفشل تقويضها قد تشي في زاوية من زواياها أن الهدف بات مرحلياً ليّ ذراع النظام لا كسره، وبالتالي مزيداً من الإضعاف لأجل مزيد من المكاسب. علماً أن ليّ الذراع، أميركياً، يعود بالنفع أكثر من كسره، ما دام أن الهدف إقتصادي من جهة ومقارعة الصين من جهة أخرى. وهو بالمناسبة مطلب تركي أيضاً لأن سقوط النظام الإيراني يعني توهّج التهديد الكردي على تركيا، مع الإشارة إلى أن العلاقة بين أردوغان وترامب والترتيبات بينهما هي في أمتن أوقاتها إن جاز التعبير…
مصلحة أميركا إذا (التي قد لا تلتقي مع مصلحة نتنياهو) هي في نظام إيراني ضعيف لا مقوَّض. الأمر بدا جلياً في سوريا أيضاً عقب الحوادث الأخيرة، حيث ليس رأس النظام الضعيف هو المطلوب، بل الضعف في ذاته. وسيتجلى هذا النسق أكثر في لبنان، إذ يخشى الطرف الأميركي من أي ضغوط تؤدي إلى حرب أهلية، ويمارس كل أشكال التهويل لأجل محاولة الوصول إلى ما يريد من دون إحداث تبعات قد تغدو بلا ضبط وتُدحرج الأمور نحو سيءٍ لا يمكن حصره.
هنا سيُفتح الباب للنقاش، خصوصاً بعد المعلومات الأخيرة أن إيران ودولاً أوروبية تتفق على استئناف المحادثات النووية. فهل ستمضي في ما كانت سائرة عليه قبل الحرب، في مقابل تنازلات معينة متعلقة ربما هذه المرة بأمن إسرائيل، إيرانياً ولبنانياً؟ قد لا يعني هذا التخلي عن الرفض المبدئي لإسرائيل، لكنه يعني التحرك الزئبقي في دائرة البقاء، البقاء الذي يضمن لكلمة “لا” أن تدوم أيضاً، في المبدأ.
قال محمد حسنين هيكل قبل أكثر من 23 عاماً: “المشكلة هي كيف تستطيع أن تصوغ رفضك المبدئي في صورة حركة سياسية تصنع أخباراً تجعل الناس مهتمة بها وفي الوقت نفسه لا تتراجع عن المبدأ… فالسياسة هي نوع من المسرح”.
-المقاربة الواردة لا تعكس بالضرورة رأي مجموعة “النهار” الإعلامية.