بعلبك، مدينة الشمس، تتصدى للتحديات (صور وفيديو)

بعلبك، مدينة الشمس، تتصدى للتحديات (صور وفيديو)

لطالما كانت بعلبك، أو مدينة الشمس كما تُعرف، تجذب إليها آلاف الزوار من كل حدب وصوب. لكن على مدى السنوات الماضية، خفت بريق هذه الجوهرة بفعل وطأة أزمات اقتصادية متلاحقة، وتدهور في الخدمات والبنى التحتية، فضلاً عن توترات أمنية ألقت بظلالها على محيطها، هذا الواقع المؤلم جعل الكثيرين يترددون في زيارة هذه المدينة، حتى وإن ظلت بعلبك نفسها بمنأى عن أغلب هذه التوترات.

لكن بعلبك، بتاريخها العريق وروحها الصامدة، لا تستسلم بسهولة. فمع كل صيف، تعود مهرجانات بعلبك الدولية لتحمل معها بصيص أمل، معلنةً أن المدينة ما زالت تنبض بالحياة. هذا العام، يظهر هذا الأمل بشكل خاص مع افتتاح المهرجانات في 25 تموز/ يوليو الجاري بحفل ضخم هو “أوبرا كارمن”، بإنتاج خاص يعكس الإصرار على تقديم فن عالمي المستوى. ويتبعه في 8 آب/أغسطس حفل مرتقب للفنانة اللبنانية الكبيرة هبة طوجي بعنوان “حقبات” (Stages)، من إنتاج أسامة الرحباني، داخل قلعة بعلبك الأثرية الشاهدة على آلاف السنين من الحضارة.

 

التحضير لمهرجانات بعلبك (لينا اسماعيل).

 

 

هذان الحدثان ليسا مجرد عروض فنية، إنهما بمثابة شريان حياة يضخ دماء جديدة في شرايين السياحة الثقافية في المدينة. إنهما يذكراننا بالمكانة الفنية الرفيعة لبعلبك، ويدعوان الزوار لإعادة اكتشاف سحرها وجمالها.

لم يكن طريق مهرجانات بعلبك مفروشاً بالورود دائماً لقد واجهت العديد من التحديات الجسيمة عبر تاريخها الطويل، والتي تعكس واقع لبنان المليء بالاضطرابات:
 الأزمات الأمنية والسياسية: لطالما كان الوضع الأمني المتوتر في لبنان والمنطقة يلقي بظلاله على المهرجانات. في بعض السنوات، اضطرت اللجنة المنظمة لنقل بعض العروض إلى بيروت أو مناطق أخرى أكثر أماناً، أو حتى إلغاء بعض الدورات بالكامل، في إثبات مستمر أن “الفن أقوى من العنف والخراب”.

 

 الأوضاع الاقتصادية:

تأثير الأزمات الاقتصادية على لبنان انعكس أيضاً على ميزانية المهرجانات، ما فرض تحديات على استقدام فنانين عالميين وتنظيم فعاليات ضخمة.
 جائحة كوفيد-19: أدت الجائحة إلى توقف المهرجانات لعدة سنوات، ثم عودتها بتعديلات مثل العروض بدون جمهور، مع التركيز على الرسائل الرمزية للصمود.
رغم كل هذه الصعوبات، أظهرت لجنة المهرجانات وأهالي بعلبك إصراراً لافتاً على استمرارية هذه الفعالية. في كثير من الأحيان، كانت المهرجانات تقام كـ”رسالة أمل من قلب القلعة التاريخية”، مؤكدة أن “المقاومة الثقافية” هي سبيل للخروج من البؤس اليومي.

 

قلعة بعلبك (لينا اسماعيل).

قلعة بعلبك (لينا اسماعيل).

 

الفن يصمد ويقود النهضة: من جانبه، يشرح عضو مهرجانات بعلبك الدولية حماد ياغي رسالة المهرجانات هذا العام بأنها “واضحة وقوية: الحياة تنتصر والفن ينهض. على الرغم من كل التحديات التي يواجهها لبنان، وخاصة في بعلبك، نصر على تقديم موسم فني استثنائي.” ويرى أن المهرجانات تلعب دوراً محورياً في تنشيط السياحة الثقافية، فهي “ليست مجرد عروض ترفيهية، بل هي دعوة مفتوحة للزوار من لبنان والخارج لإعادة اكتشاف بعلبك. إنها تضع المدينة على الخريطة العالمية مرة أخرى، وتجذب الانتباه إلى تاريخها الغني وإمكانياتها السياحية الهائلة” .

 

واضاف: “مهرجاناتنا ليست مجرد عروض، بل هي رسالة صمود وشهادة على قدرة اللبنانيين على الحياة والإبداع رغم كل التحديات، لن نسمح لاي الظروف أن تطفئ شعلة الفن والثقافة التي أضاءت هذه القلعة لسنوات طويلة. نعمل بكل جهد لإتمام المهرجان بنجاح”.

في ظل تراجع أعداد الزوار الأجانب، يضع القطاع السياحي في بعلبك اليوم رهانه على السياحة الداخلية. فبشكل ملحوظ، بدأ عدد من اللبنانيين يعيدون اكتشاف كنوز بلادهم ومدنهم التاريخية. حتى مرجة رأس العين، ورغم جفاف نهرها الذي كان يوماً يرويها، لا تزال تستقبل العائلات الباحثة عن نسمة هواء نقي ومساحة للاسترخاء. وتستمر القلعة الأثرية في استقبال الزوار يومياً، وإن كانت الأعداد متواضعة، إلا أنها دليل على أن الشوق إلى بعلبك لم يخمد بعد.

لكي تعود بعلبك إلى سابق عهدها كوجهة سياحية عالمية، فإن الأمر يتطلب أكثر من مجرد مهرجانين أو زيارات موسمية. نحتاج إلى خطة شاملة ومستدامة تبدأ بإعادة بناء الثقة في البنية التحتية المتدهورة، وتحفيز الاستثمار في الفنادق والمنشآت السياحية، وتوفير الأمن والخدمات الأساسية. كما يجب العمل على تطوير حملات ترويجية محلية وعالمية تضع بعلبك مرة أخرى على الخريطة السياحية.

 

 

 

 

 

 

تحديات وآمال أصحاب الأعمال: يروي عضو الاتحاد الدولي للنقابات السياحية وصاحب أحد المطاعم المحلية إيهاب رعد لـ”النهار ” عن السنوات القاسية التي مرت على القطاع، مؤكداً “لقد كانت السنوات الماضية قاسية جداً على قطاعنا. اضطررنا لتقليص حجم العمل، وحتى تسريح بعض الموظفين، وهذا كان قراراً مؤلماً جداً. العديد من المطاعم والفنادق أغلقت أبوابها نهائياً، وهذا مؤشر خطير على حجم الأزمة”. ومع ذلك، يبدي تفاؤلاً حذراً بموسم الصيف الحالي، قائلاً: “مهرجانات بعلبك الدولية هذا العام تعطينا دفعة معنوية كبيرة، ونأمل أن تترجم إلى حركة فعلية في الفنادق والمطاعم. طموحنا على المدى الطويل هو أن تعود بعلبك إلى مكانتها كوجهة سياحية رئيسية”. ويؤكد أن الأمر يتطلب “استثمارات حقيقية في البنية التحتية، ودعم من الدولة لتعزيز الأمن وتوفير الخدمات الأساسية”.

 يُعبّر إيوان عمر سائح لبناني كان يزور المدينة حنينه لبعلبك قائلاً: “بعد سنوات طويلة لم أزر فيها بعلبك، شعرت بحنين كبير لهذه المدينة العريقة. قررت أن آتي هذا الصيف لأرى المهرجانات، فهي دائماً كانت حدثاً مميزاً”. ورغم ملاحظته أن “الخدمات لا تزال بحاجة إلى تحسين كبير طبعاً؛ الكهرباء غير مستقرة، وهناك نقص في بعض الخدمات السياحية مقارنة بالسابق”، إلا أنه يؤكد أن “الناس هنا ودودون للغاية، والطعام لذيذ، وهذا يعوض الكثير. أتمنى أن يتم الاهتمام ببعلبك أكثر، لأنها كنز حقيقي”.

 

إن بعلبك، بقلعتها الشامخة وروحها التي لا تنضب وتاريخها الذي يمتد لآلاف السنين، قادرة على النهوض مجدداً. يكفي أن يُمنح سكانها والمستثمرون فيها الأمل، وأن تُعاد إدماجها بفعالية في خريطة السياحة اللبنانية، ليس كمدينة موسمية تُزار في الصيف فحسب، بل كعاصمة دائمة للثقافة والتاريخ في الشرق. ربما لا يحمل هذا الصيف الحلول كلها، لكنه قد يكون بداية عودة تدريجية إلى المكانة التي تستحقها بعلبك على خارطة السياحة اللبنانية والعربية والعالمية.