عندما أذن لي جاد بالدخول

ليليان يمين
كان قريبا، ولا ينظر إلى أحد،
عيناه تتبعان الضوء المنكسر على الحصى، كأنه يبحث عن شيء لا نراه نحن.
اقترب مني، دون كلمة. نظر إلى الحصى الملوّنة على طاولتي، ثم جلس.
لا سؤال. لا تردد. فقط جلس.
ومنذ ذلك اليوم، بدأنا نركّب الصمت معًا، كمن يلعب بلعبة يعرف قوانينها قلبه فقط.
لم يكن جاد يتكلم كثيرًا.
لكن الحصى تتكلّم عنه.
تلك الحجارة الصغيرة، الملساء، الملونة، التي أحملها في جيبي وأنشرها في كل مكان حتى انتقلت العدوى لمن حولي فأجدها بين أصايع ماهر وأوراق رامي كأنها رسائل من أرضٍ تعرفني،كانت هي سبب اقتراب جاد،كما يقترب طفل من كائن حي، لا ليأخذه، بل ليصغي إليه.
كان يومًا عادياً،
ثم جاء هو، بعينيه الهادئتين، وجلس.
لم ينظر إليّ، بل إلى الحصى.
كأنها نادته. كأنها تعرفه قبلي.
ومنذ ذلك اليوم، لم نعد غريبَين.
لم تكن والدته هناك في المرة الأولى.
كان برفقة زميل لي، قال باقتضاب: “اسمه جاد… لا يرتاح عادةً لأحد.”
لم أقل شيء استمريت أتحرك كعادتي في حين راح هو يضع الحصى بين كفيه. .
في اليوم التالي، علمتُ أن والدته تفاجأت من هذا اللقاء.
قالوا لي: “حتى مع الأخصائيين لا يتجاوب. هذه أول مرة يشعر فيها بالارتياح منذ زمن وبأنه يرغب في العودة.”
لم أفرح… بل صمتُّ.
لأنني شعرت بثقل هذه الثقة، ورهافتها.
كأنها طائر صغير هبط على كتفي، ولا يجب أن أتحرك كي لا يطير.
في كل لقاء، كان يحمل شيئًا جديدًا في عينيه.
لم يكن ينطق، لكن عينيه تتكلمان.
أحيانًا تُضيئان فجأة إذا وقعت يده على حصاة ملساء بلون غير متوقع، كأنها كنز صغير.
وأحيانًا تتغيّر ملامحه كلها إن سمع صوتها وهي تنزلق على البلاط.
كنا نرسم على الرمل، نركّب الحصى بشكل دوائر، أو نغمرها في الماء ونراقب كيف يتغير لونها تحت الضوء.
كنت أظنّه لا ينتبه لي، منشغلًا بعالمه.
لكن مرة، حين سقطت مني حصاة صغيرة رمادية، ناولني إياها دون أن أنظر، وكأنه يقول: “انتبهي، هذه حصاتك المفضّلة.”
في تلك اللحظة لم يكن في قوقعته، بل كان في مكان أنقى، يختار من يدخل إليه.
ولسبب لا أعرفه، سمح لي بالدخول.
حاولتُ أن نخلق ألعابًا أخرى، أن نبتكر أنشطة جديدة تلهينا عن الحصى،
لكن جاد كان دائمًا ينحاز إلى تلك الحصى الصغيرة، وكأنها صديقات قديمة لا تتركها.
ذات مرة، اقترحتُ عليه أن نرسم ونلوّن باقة أزهار ليقدمها لوالدته في عيد الأم.
فكرت أن ذلك سيكون جميلًا، وعملًا يربط بينه وبين من يحب.
لكنني أخطأت.
لم أدرك أنني تعاملت معه كطفل صغير، بينما هو شاب مختلف، بحضوره الخاص وثقله الصامت.
إعترض بشدة، لم يكن رفضًا واضحًا بالكلمات، لكنه كان في حركاته، في صمته الذي علت فيه رعدة غير مألوفة.
لم يقل لي شيئًا، لكنني فهمت.
فهمتُ أن الاحترام يبدأ من فهمه كما هو، لا كما أريد أن أراه.
أن أسمع صمته قبل أن أملأ الفراغ بكلماتي.
وهكذا، عدنا إلى الحصى، التي وحدها تعرف لغة جاد، ولغتي معه.
في يومٍ من الأيام، أرسلت اعتذارًا بأنني لن أستطيع المجيء.
لم أكن أتوقع شيئًا.
لكن بعدها بدقائق، جاءني زميلي بسؤال:
“جاد يسأل… هل ممكن نعمل اللقاء أونلاين؟”
تجمّدت.
أنا التي ظننت أن الحصى، والرمل، وضوء البحر هي التي تربطنا.
لكن بطريقته، قال لي: “أراكِ. أفتقدكِ. أريد هذا اللقاء أن يستمر.”
أربكني.
لأني رأيت فجأة كل ما لم يُقل بيننا… وقد تحوّل إلى طلب بسيط:
“هل نبقى، ولو عبر شاشة؟”
في حضرة جاد، أكون امرأة أخرى.
لا أشبه تلك المرأة المثقلة التي أصبحتها للأسف..
تصمت ذاكرتي ولا تشكو.
كأنني أتعلم من جديد كيف أكون حيّة دون أن أُثبت شيئًا.
جاد على عكسي، أخاله هو نفسه دائمًا — لم يتغير، لم يتلوّن، لم يتصنّع.
كأن اللقاء لا يخلق له “وجهًا آخر”، بل يكشف فقط النور الذي فيه.
وأنا، كلما جلست قربه،
أفهم أن ما بيننا لا يحتاج إلى تفسير.
يكفي أن أكون… خفيفة.
يكفي أن نبقى… ولو في الصمت.
أحيانًا، حين أنظر إلى جاد،
أرى طفلا كان يلعب معي،
ذاك الطفل الذي أصبح اليوم باحثًا في الرياضيات،
يحركني ذاك الحنين العميق إلى البراءة والدهشة الأولى.
هل أنا أمام استعادة لتلك الدهشة التي تبدو بعيدة،لكنها ما زالت تنبض في داخله، وفي داخلي أيضًا؟
وهل يمكن أن نعيشها من جديد، حتى ونحن نكبر، ونغوص في عوالم مركبة ومعقدة.
أمس، غادرتُ إلى الجبل.
أخبرته أن اللقاءات ستتوقف مؤقتًا، أنني سأكون بعيدة عن البحر، عن الحصى، وعن دائرتنا الصغيرة.
قلتُ له بلطف: “حين أعود، نتابع.”
لم يقل شيئًا.
لا غضب، لا رفض، لا رجاء.
دخل في صمته كمن يغلق بابًا من الداخل، دون أن يُحدث صوتًا.
فقط غاب.
وسكنني سؤال خافت لا أعرف كيف أطرحه:
هل هذا الصمت خيبة؟
أم حماية؟
هل ضاعت اللغة التي بنيناها؟
أم تنتظر، كما تنتظر الحصى مجيء الموج ليحرّكها من جديد؟