هل يمكن أن تكون الملكية الدستورية مناسباً لسوريا؟

الدكتور عاصم عبد الرحمن
تعد التجربة السياسية السورية إحدى أكثر التجارب العربية تعقيداً، إذ شهدت خلال القرن المنصرم تحولات جذرية في نظام الحكم، بدءاً بالسلطنة العثمانية وصولاً إلى هيئة تحرير الشام بزعامة أحمد الشرع إثر ثورة شعبية عارمة.
مسارات سياسية ودستورية مختلفة تعكس تركيبة المجتمع السوري التعددي وتسلط الضوء على مدى إمكان أي نظام من تحقيق الإستمرارية الشعبية والاستقرار المؤسساتي طبقاً لشكل العلاقة بين السلطة والمجتمع وانعكاس الواقع السياسي على الدستور، فأي نظام سياسي يوازن بين الديمقراطية والاستقرار ويبدد هواجس عودة الديكتاتورية؟
أولاً: سوريا وتعدد التجارب السياسية
شهدت منذ الاستقلال سوريا مراحل دستورية مختلفة:
ما بعد الاستقلال (1946-1949): تميزت بجمهورية برلمانية وحياة حزبية نشطة، إلا أن هشاشة التجربة السياسية أدت إلى اضطرابات داخلية.
الانقلابات العسكرية (1949-1958): سقطت الحياة الديمقراطية تحت سيطرة الجيش، وشهدت البلاد ثلاثة انقلابات خلال عام واحد.
الجمهورية العربية المتحدة (1958-1961): تجربة وحدوية مع مصر انتهت بسبب التهميش السياسي والاقتصادي للسوريين.
ما بعد الانفصال (1961-1963): عادت الحياة البرلمانية جزئياً، لكنها سرعان ما انتهت بانقلاب البعث.
حكم البعث (1963-2000): فرضت حالة الطوارئ وألغيت التعددية، وأُسس نظام سلطوي عائلي بقيادة حافظ الأسد.
عهد بشار الأسد (2000-2024): وراثة الحكم وتعديل الدستور، قمع للحريات واندلاع ثورة 2011 التي كشفت عن هشاشة النظام وقادت لاحقاً إلى انهياره.
ثانياً: الثورة السورية وتحولاتها
انفجرت الثورة في العام 2011 نتيجة الاستبداد السياسي، الأزمات الاقتصادية، وتأثر السوريين بالربيع العربي. بدأت سلمية ثم تحولت إلى نزاع مسلح بسبب عنف النظام، وتعددت التدخلات الخارجية، ما أدى إلى تفتت الدولة وتهجير الملايين وسقوط آلاف الشهداء.
مع سقوط نظام الأسد في العام 2024، برز أحمد الشرع قائداً جديداً للمرحلة الانتقالية، جامعاً بين الكاريزما والشرعية الشعبية، مانحاً الأمل بإعادة بناء سوريا وفق أسس العدالة والمواطنة، خصوصاً وأنه قال لدى دخوله دمشق: “فتحاً لا ثأر فيه”.
ثالثاً: جدلية الديمقراطية ووحدة الدولة
أظهرت التجربة السورية أن غياب التوازن بين الديمقراطية ووحدة الدولة كان سبباً جوهرياً في فشل النظم السابقة، إذ غالباً ما جنحت سوريا إما إلى الديكتاتورية باسم الاستقرار أو إلى الفوضى باسم الحرية، لتعود مجدداً إلى الاستبداد.
اليوم، وفي ظل انكباب الحكومة الانتقالية على كتابة دستور جديد للبلاد يجنب تكرار الخيارات الخاطئة والجنوح نحو تفسير المفاهيم وممارستها، تبرز الملكية الدستورية كنموذج سياسي بديل، يجمع بين رمزية الدولة ووحدتها وضمان الديمقراطية.
رابعاً: الملكية الدستورية
النظام الملكي الدستوري يقوم على وجود ملك كرمز للدولة، بينما تُناط السلطة التنفيذية بالحكومة المنتخبة ضمن دستور يضمن فصل السلطات وحقوق المواطنين، من أبرز خصائصه:
تحديد صلاحيات الملك دستورياً.
وجود برلمان منتخب.
استقلال القضاء.
حماية الحريات العامة.
وتُعد بريطانيا، إسبانيا، السويد، واليابان أمثلة ناجحة لهذا النموذج.
خامساً: التحديات والفرص
رغم وجاهة الطرح، يواجه خيار الملكية الدستورية في سوريا تحديات عدة، منها:
الذاكرة التاريخية السلبية: تجربة الملك فيصل عام 1920 التي لم يُكتب لها الاستمرارية.
رفض بعض التيارات الثورية: قد تفضّل النظام الجمهوري الديمقراطي.
هوية الملك: شخصية الملك المقترح ستكون محور جدل كبير.
اتهامات خارجية: احتمال ربط الفكرة بدعم خارجي، لا سيما من الخليج.
في المقابل، تتيح الملكية الدستورية فرصاً استراتيجية:
تجاوز ثنائية “الديكتاتورية أو الفوضى”.
تحقيق الاستقرار الرمزي والدستوري.
تعزيز المواطنة والمشاركة.
طمأنة المكونات المتعبة من الحرب.
سادساً: بين الشرعية والثقة… هل يولد ملك؟
على وقع انتصار الثورة السورية ووصول قائدها أحمد الشرع إلى الحكم في مرحلة إنتقالية يسعى خلالها إلى بناء دولة القانون والمؤسسات، وفي الوقت الذي يحقق فيه أعلى نسبة جماهيرية في تاريخ سوريا الحديث – بحيث تمكَّن ببذته العسكرية وطلته البهية ولحيته الوقارية وقوته البدنية وسنينه الفتية من خطف قلوب السوريين وبات أيقونة حريتهم وبطل حكايتهم التي كتبوها بدمائهم ودموعهم فتخطت جماهيريته حدود سوريا حتى لقبوه بـ “أحمد الفاتح” – تُرجمت بمشاركة الملايين في احتفاليات عدة كانتصار الثورة والإعلان عن الهوية البصرية الجديدة للدولة، تلبيةً لدعوة الرئيس، ما يعتبر استفتاءً على شرعيته الشعبية والثقة الوطنية التي يتمتع بها ما يفتح باب النقاش أمام الخيار الأفضل للنظام السياسي المرتقب وهو في هذه الحال “الملكية الدستورية” الذي يجمع بين الدستور والديمقراطية، على أن يطرح للاستفتاء الشعبي الذي يعتبر وسيلة مباشرة للتعبير عن إرادة الشعب. ففي عالم السياسة، تعتبر النظم الدستورية والآليات الشعبية كالاستفتاءات من الركائز الأساس التي تحدد شكل الحكم وطريقة ممارسة السلطة.
إذاً، بما أن النظام الملكي الدستوري يعتبر نموذجاً يوازن بين التقاليد الملكية ومتطلبات الحكم الديمقراطي، وفي حال اعتمدته سوريا، إنما يفتح الباب أمام بناء دولة مستقرة سياسياً ودستورياً من خلال وجود ملك يحفظ دستورها ويصون وحدتها ويعزز مواطنيتها، ويتنافس السوريون ديمقراطياً عبر الانتخابات الحزبية والنيابية والمشاركة في السلطة، وبما أن السوريين أجابوا الرئيس الشرع بـ “نعم” في أكثر من استفتاء، فهل يصبح أحمد الفاتح جلالة الملك؟.