الحصار الإسرائيلي على غزة: تجويع كأداة للحرب وأداة قتل خفية

الحصار الإسرائيلي على غزة: تجويع كأداة للحرب وأداة قتل خفية

لم يعد القصف وحده وجه الموت في غزة، بل بات الجوع سيفاً مصلتاً على رقاب أكثر من مليوني إنسان، يحاصرهم الخوف والعيش في خيام وركام. وعلى امتداد هذا القطاع المنكوب، تتراجع الحياة أمام أمعاء خاوية، وأجساد تنحل شيئاً فشيئاً حتى تنطفئ بصمت.
وفي ظل حصار خانق وحرب مستعرة منذ أكثر من 21 شهراً، باتت المجاعة وجهاً جديداً للنكبة الفلسطينية، وواقع يعيشه الأهالي، خاصة الأطفال والنساء، الذين يتقدمون صفوف الجوعى، ويدفعون ثمن الحرمان من الطعام والدواء والماء.
ولئن وصّفت تقارير الأمم المتحدة المشهد بأنه بلغ “مستوى الكارثة” مع وصول نصف مليون فلسطيني إلى المرحلة الخامسة من انعدام الأمن الغذائي، وهي المرحلة الأشد خطورة، إلا أن المنظمة نفسها، كما العالم، غاب عنها الاعتراف رسمياً بالمجاعة الواقعة حتى اللحظة. ولم يتحرّك أحد لردع آلة القتل الإسرائيلية التي تفتك بصفوف طالبي الحد الأدنى من الغذاء. 

أطفال يذبلون على عتبات الحياة
يتقدم الأطفال واجهة هذه الكارثة، إذ توثق منظمة “أطباء بلا حدود” و”اليونيسف” أن 71 ألف طفل مهددون بالموت جوعاً، وأن الآلاف منهم باتوا بحاجة فورية إلى علاج من سوء التغذية الحاد. وفي مستشفيات تفتقر إلى أدنى مقومات البقاء، يضطر خمسة رضع إلى مشاركة حاضنة واحدة، فيما تسجل وحدات العناية المركزة معدلات غير مسبوقة من الولادات المبكرة الناتجة عن سوء التغذية الحاد بين الأمهات.
في خان يونس، تقول الطفلة أمينة وافي، ذات العشرة أعوام، التي التقتها وكالة الأنباء الفرنسية: “أنا جائعة جداً… أخاف أن أموت وأنا جائعة”. كلامها ليس مجرد مناشدة عابرة، بل شهادة من قلب المجاعة، ومن طفولة حُكم عليها أن تنضج على مرارة الحليب المفقود، والطعام المتخيل.
يقول الناطق باسم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) كاظم أبو خلف، لـ”النهار”، إنّ “الوضع في غزة مأسوي، ويتجه نحو المزيد من التدهور. بالمقارنة مع شباط / فبراير، ازدادت حالات سوء التغذية بنسبة 280%. وحتى نهاية حزيران / يونيو، سُجّل دخول 6 آلاف طفل تراوح أعمارهم بين 6 أشهر و5 سنوات في دائرة سوء التغذية الحاد، من بينهم 910 في مرحلة “سوء التغذية الحاد الوخيم”، وهي أخطر مراحل الجوع وأكثرها فتكاً”.
ووفقاً لأبو خلف فإنّ الغذاء أصبح “سلاحاً يُستخدم عمداً، تماماً كالقصف”. حتى مياه الشرب باتت أزمة كبرى، إذ إن 95% من العائلات في القطاع تفتقر إلى المياه الصالحة للشرب وللاستخدامات الأساسية، ما أدى إلى أن 44% من الحالات المرضية تُعزى إلى نقص المياه النظيفة.

 

يتقدم الأطفال واجهة الكارثة الإنسانية في غزة. (أ ف ب)

 

فخ الموت
ومع إصدار أوامر إخلاء جديدة تطال ما يقارب 88% من مساحة القطاع، يجد أكثر من مليوني فلسطيني أنفسهم محشورين في مساحة لا تتجاوز 12% من أراضي غزة، تفتقر إلى الغذاء والماء والدواء، وتُدار بآلية إسرائيلية – أميركية لتوزيع المساعدات، يصفها البعض بأنها “آلية للقتل الممنهج”.
ولم يعد الوصول في غزة إلى كيس طحين أو عبوة طعام معلّب رحلة محفوفة بالمخاطر فحسب، بل قد تكون رحلة الموت ذاتها. وتزايدت الشهادات عن قصف، وإطلاق نار، وجوع، وتزاحم يتحول إلى مأساة جماعية، حتى بات مقتل المدنيين أثناء انتظارهم المساعدات مشهداً عادياً.
آخر مثال على ما يحدث، إطلاق القوات الإسرائيلية النار على حشود تجمعت حول شاحنات مساعدات فقتلت 93 مدنياً، منهم 80 في شمال القطاع، بحسب ما أفاد الدفاع المدني. ويكشف أبو خلف أن التقارير تُشير إلى مقتل 922 شخصاً، معظمهم في محيط مواقع توزيع تابعة لـ”مؤسسة غزة الإنسانية” منذ بدء عمل المؤسسة (قبل نحو 55 يوماً)، وهذا يعني أن المعدل اليومي للضحايا بلغ 16 قتيلاً في اليوم.
وفي مخيمات النزوح، كما في مدارس “الأونروا”، تصطف الطوابير لأجل لقمة قد لا تأتي. أما داخل “مطابخ الطوارئ”، فالوضع ليس أفضل. برنامج الأغذية العالمي أعلن أن المطابخ تقدم “ماءً ساخناً مع القليل من المعكرونة”، واصفاً الوضع بأنه “الأسوأ على الإطلاق”.

 

922 شخصاً قتلوا خلال شهرين أثناء محاولتهم الحصول على الطعام من مراكز

922 شخصاً قتلوا خلال شهرين أثناء محاولتهم الحصول على الطعام من مراكز

 

الاعتراف الغائب
لقد مُني المجتمع الدولي بـ”فشل ذريع في هذا الامتحان”، وفقاً لأبو خلف، الذي يقول إنّه في مطلع أيار / مايو، صدر تقرير “الأمن الغذائي المرحلي المتكامل”، بناء على رصد ومسح ميداني، ويُعد من التقارير التي تعتمد عليها الجهات المختصة في إعلان المجاعة. يُحذّر التقرير من أن نحو 470 ألف شخص في غزة سيدخلون دائرة سوء التغذية الحاد ما بين أيار وأيلول / سبتمبر. وقد بدأ الحديث فعلاً عن “مشاهد لأشخاص يسقطون على الأرض من شدة الجوع”.
ويضيف: “هذا تقرير علمي جدي، ومن المفترض أن يُؤخذ على محمل الجد، لا أن يُوضع على الرفوف”. وعلى رغم ذلك، لا يزال اعتراف العالم الرسمي بالمجاعة غائباً.
لم يعد الجوع حالة استثنائية، بل واقع يومي ينهش أجساد النازحين تحت الخيام وفوق الركام في غزة. فالجوع تحوّل إلى سلاح حرب، لا يقل قسوة عن القصف، يفتك بالبشر بصمت وبطء. وفي مقابل هذا الموت المتدحرج، يكتفي العالم بتصريحات جوفاء وتظاهرات خجولة هنا وهناك، لا تملك من التأثير إلا صداها.
إنها ليست مجرد كارثة إنسانية، بل مجزرة بالتجويع، تُرتكب على مرأى العالم، من دون أن تُقابل بإرادة حقيقية لوضع حد لها.