وداعًا محمد عزيزة | النهار

وداعًا محمد عزيزة | النهار

بالكاد كنت على تماس بالحركة التشكيلية الطرابلسية حين بدأ اسم محمد عزيزة يظهر ويتسامى في بداية سبعينيات القرن الماضي، خصوصاً من خلال مجموعة العشرة التي كان الراحل أحد أركانها منذ بداية تأسيسها وانطلاقها في الرابطة الثقافية.

 

كانت الرابطة تعتبر من أهم منصات الجذب الثقافي والمدني والاجتماعي وحتى السياسي في الحاضرة الطرابلسية؛ فطرابلس وإن اشتهرت بزنود الست والسمكة الحرة، فإن مجتمعها المدني مصاب بلوثة ثقافية لا شفاء منها، حتى إن مكتباتها ونواديها وروابطها والكثير من مقاهيها المنتشرة في جميع الأحياء، لطالما كانت مركزاً للمطالعة والحوار والجدل الفكري والسياسي والأدبي بين نخبها واتجاهاتهم المتنوعة والمتعددة.

 

إن نكشاً خفيفاً في التاريخ الحديث لطرابلس يظهر لنا آباراً ثقافية لطالما ارتوى منها الرواد الطرابلسيون.

 

لذا لا غرابة في أن يخرج من إحدى هذه الآبار مجموعة العشرة التي رفعت اسم طرابلس عالياً في المحافل والمعارض الفنية في الكثير من بلدان العالم، حاصدين الجوائز، جماعة وفرادى، حتى إن الكثير من المتاحف المشهورة اقتنت من أعمالهم الفنية ما يشكل تقديراً لهم واعترافاً بإبداعاتهم.

 

وقد نال راحلنا الكثير من الجوائز وبعض لوحاته تزين قصر بعبدا والقصر الجمهوري البرازيلي والكثير من الأماكن وبيوت عشاق الفن التشكيلي.

 

تعرفت على محمد عزيزة عن قرب في تسعينيات القرن الماضي في كلية الفنون في الجامعة اللبنانية الفرع الثالث، ذلك أنني كنت أزور جميع كليات الفروع الشمالية بصفتي النقابية آنذاك واجتمع مع الأساتذة للتداول في الشؤون والشجون الكثيرة، خصوصاً في آواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات حين انهارت قيمة الرواتب وتردت الخدمات.

 

وكان المعهد، الذي تأسس على يد فضل زيادة وعدنان خوجة ومحمد عزيزة ومحمد غالب وآخرين، هو المفضل لي في الزيارات، رغم أنني ابن كلية العلوم والمعادلات الرياضية. فالمعهد (الكلية لاحقاً) بمجالاته وورشه المختلفة كان وما زال يضفي على “الزائر الغريب” خليطاً من التوثب والراحة. فداخل المعهد هو عالم خاص، عالم المخيلة والريشة والإزمير، عالم اللوحة والمنحوتة والحواديت المتنقلة، عالم تختلط فيه الأفكار والأهواء والرموز، عالم يقتحم الآفاق دون استئذان.

 

أذكر أنني اطلعت في إحدى الزيارات على اللوحات المكدسة لخريجي الدبلوم، ما جعلنا نعمل على أن تعار وتعرض في باحات وقاعات الكليات في جميع الفروع.

 

شكل هذا الموضوع أساس الفكرة التي راودتنا حين كنا نحتفل في منزل زميلنا الفنان علي العلي في إنجاز أسس المدينة الجامعية في المون ميشال من نقل ملكية واستملاكات وتلزيم شركة للدراسات، فقد فكرنا بتحويل حائط كلية العلوم في القبة إلى جداريات منفذة كمشاريع الدبلوم لطلاب الفن التشكيلي، في رغبة لإعطاء دفق حداثي في منطقة فائقة الرمزية كمقدمة لمشروع ثقافي إنمائي في حي القبة المهمش وفي الأحياء المجاورة.

 

في أحد أيام نيسان/أبريل 2004 ، وبعد أن رممت البلدية الحائط، أتى علي العلي إلى العلوم ومعه زميله محمد عزيزة. وبعد شرح الفكرة وأبعادها وأهمية الشارع الذي يربط الأحياء والأقضية المتنوعة ويحتضن عشرات المؤسسات ويؤمه يومياً آلاف الشماليين، بادرني محمد بالقول: إن فكرة الطلاب رائعة ولكن لرمزية وتاريخية المكان وسمو الهدف أقترح أن ينفذ الجداريات أساتذة وفنانون تشكيليون، وقال مبتسماً: نبدأ أنا وعلي وأظن أن الأساتذة جميعهم “بين يديك”، المهم أن تؤمن المواد اللازمة لكل جدارية، و تابع قائلاً ولن يصعب عليك إقناع البلدية وتأمين الرعاة. وهكذا كان، إذ تدفق الأساتذة والفنانون التشكيليون إلى الجدار والكلية، جالبين معهم عبقريتهم وأمزجتهم وأهواءهم، ما جعل محمد عزيزة يقول لي ساخراً أنت الآن في وكر الدبابير.

 

كان عزيزة غزير العطاء في سنواته الأخيرة، خصوصاً في تصويره للمعاناة في لبنان وسوريا وفلسطين والمنطقة، وكان كثر ينتظرون عمله على “الفايسبوك”.

 

قال وجيه نحلة عن محمد عزيزة إنه أهم من أجاد في إظهار جمالية الألوان في لوحاته، وقال عنه آخرون إنه من أفضل رسامي البورتريه. أما أنا فأقول له وداعاً محمد. وشكراً لأنك أدخلتني إلى وكر الدبابير، فقد أبدعت مع هذه الدبابير أعمالاً انعكست وانتشرت في كل مكان، وجلبت لطرابلس لقب “مدينة الجداريات”.