أذربيجان وروسيا: هل انتهت فترة التوازن؟

في ظلّ انشغال روسيا بحرب أوكرانيا، وتصاعد الطموح الإقليمي لأذربيجان، بدأت ملامح مشهد جديد تتبلور في جنوب القوقاز، حيث تواجه موسكو خطر تآكل نفوذها التاريخي أمام تحالفات متغيّرة.
شهدت العلاقة بين روسيا وأذربيجان تطوّرات لافتة في الأشهر الأخيرة، اتسمت بالتوتر والبرود، بعد سنوات من التوازن الحذر الذي حكم العلاقة بين موسكو وباكو منذ انهيار الاتحاد السوفياتي. هذه العلاقة، التي لطالما تميّزت بتشابك المصالح الجيوسياسية والاقتصادية، دخلت اليوم مرحلة دقيقة من إعادة التقييم، وقد تحمل تبعات إقليمية أوسع، خاصة على مستقبل القوقاز ومكانة روسيا المتراجعة في الفضاء السوفياتي السابق.
منذ استقلال أذربيجان عام 1991، سعت باكو إلى انتهاج سياسة خارجية متعددة الأقطاب، توازن فيها بين الحفاظ على علاقة عمل مع موسكو والانفتاح على الغرب، وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وتركيا. في المقابل، نظرت روسيا إلى أذربيجان كدولة ذات أهمية استراتيجية، سواء بسبب موقعها الجغرافي المحوري أو لكونها منتجاً مهماً للطاقة وممراً محتملاً للغاز والنفط إلى أوروبا بعيداً عن الهيمنة الروسية.
ورغم أن أذربيجان ليست عضواً في منظمة معاهدة الأمن الجماعي (CSTO) ولا في الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، احتفظت موسكو بنفوذ غير مباشر في باكو، مستخدمة أدوات مثل تجارة السلاح، النفوذ في ناغورني كاراباخ، والعلاقات الاقتصادية، وأحياناً عبر الجالية الروسية الكبيرة في أذربيجان، والجالية الأذربيجانية الكبيرة في روسيا.
لكن ما كبح تصاعد التوتر بين الطرفين لفترة طويلة هو التركيز المشترك على التعاون العملي وتفادي الصدام المباشر، رغم التباينات الكبيرة في الرؤى. غير أن التحولات الجيوسياسية منذ عام 2020، وخاصة بعد الحرب الثانية في ناغورني كاراباخ، وما تبعها من حرب أوكرانيا في 2022، قلبت هذا التوازن الهش.
كان لحرب ناغورني كاراباخ عام 2020 دور محوري في إعادة صياغة العلاقة بين روسيا وأذربيجان. تمكنت القوات الأذربيجانية من استعادة أجزاء كبيرة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها القوات الأرمنية منذ التسعينيات، بدعم واضح من تركيا وتكنولوجيا السلاح الإسرائيلي.
وبينما توسّطت روسيا في وقف إطلاق النار ونشرت قوات حفظ سلام في المنطقة، فإن كثيرين في باكو رأوا أن موسكو أدّت دوراً غير حيادي، في ظل علاقاتها التقليدية الوطيدة مع يريفان، الحليف التاريخي لروسيا.
ومنذ ذلك الحين، ظهرت بوادر توتر غير معلن. فبينما سعت روسيا إلى الحفاظ على نفوذها في الإقليم من خلال قواتها في كاراباخ، بدأت أذربيجان بالتدريج بتحدّي هذا الدور، متسلحة بنجاحها العسكري، ودعم أنقرة، والتردّد الغربي حيال دور موسكو.
التحول الكبير الآخر جاء من يريفان، حيث بدأ رئيس الوزراء الأرمني نيكول باشينيان بانتهاج سياسة خارجية مغايرة، أقل اعتماداً على موسكو، وأكثر انفتاحاً على الغرب. في المقابل، بدأت أذربيجان بالقيام بدور أكثر تحرّراً في تعاملها مع موسكو، وهو ما جعل روسيا تجد نفسها في موقف جديد: علاقة فاترة مع كل من باكو ويريفان، وتهديد حقيقي بانحسار نفوذها في جنوب القوقاز.
وقد تُوّج هذا المسار في أيلول/ سبتمبر 2023، عندما استعادت أذربيجان كامل منطقة كاراباخ خلال عملية عسكرية سريعة، أنهت فعلياً الكيان الأرمني الانفصالي هناك. لم تتدخل روسيا عسكرياً، رغم وجود قواتها، ما فُسّر في أذربيجان كدليل ضعف أو قبول بالأمر الواقع. لكنها في المقابل رأت في هذه الخطوة تهديداً مباشراً لموقعها كضامن للتوازن في الإقليم.
خلال عام 2024 ومطلع 2025، تصاعدت التوترات بين موسكو وباكو بشكل ملحوظ، مع توجيه روسيا انتقادات ديبلوماسية علنية واتهامها لأذربيجان بتبنّي مواقف “غير ودّية”. وتفاقم الوضع بعد إسقاط طائرة أذرية متجهة إلى غروزني عن طريق الخطأ، حيث طالب الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف باعتراف روسي رسمي وتعويضات، وهو ما رفضه الكرملين رغم تعزية نظيره الروسي فلاديمير بوتين. تزامن ذلك مع توتر داخلي تمثل في وفاة مواطنين أذريين أثناء احتجازهم في روسيا، فردّت باكو باعتقال صحافيين من وكالة سبوتنيك وعدد من الروس، وسط مؤشرات على تعرّضهم لسوء معاملة. كذلك اتخذت أذربيجان خطوات سياسية وثقافية لتقليص النفوذ الروسي، بالتوازي مع تقاربها المتزايد مع تركيا وأوكرانيا، ما زاد من حدة الاستياء الروسي.
في ظل هذه الخلفية، تبرز ثلاثة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقة الروسية – الأذربيجانية، استمرار التوتر المنضبط دون قطيعة أو ثقة، تصعيد تدريجي نحو مواجهة باردة تتبادل فيها الضغوط والاصطفافات، أو عودة براغماتية إلى التعاون المحدود في ملفات مثل الطاقة والأمن، تحت وطأة المصالح المشتركة.
الواضح أن ما تشهده العلاقة الروسية – الأذربيجانية اليوم ليس مجرد خلاف ثنائي، بل هو انعكاس لصراع أوسع على النفوذ في جنوب القوقاز، بين قوى تتغيّر أوزانها ونفوذها. أذربيجان، بثقتها المتزايدة، باتت ترى نفسها قوة إقليمية قادرة على رسم السياسات، لا مجرد لاعب تابع. أما روسيا، التي ترزح تحت تبعات حرب أوكرانيا والعزلة الغربية، فتجد أن قبضتها على مناطق نفوذها التقليدي بدأت تتراخى.
لكن السؤال الحقيقي هو: هل تملك موسكو أدوات كافية لتغيير هذا المسار؟ أم يشهد القوقاز، كما أوكرانيا وبيلاروسيا، نهاية عصر النفوذ الروسي التقليدي؟
ويبقى القول، في كل الأحوال، إن باكو اليوم لم تعد تتصرّف بوصفها حليفاً تقليدياً لموسكو، بل كفاعل مستقل يعيد تشكيل موازين القوى في القوقاز.
* باحث ومستشار سياسي