مع تزايد ذكاء الآلات، تتراجع محادثاتنا.

لا أحد يقولها صراحة، لكننا نشعر بها جميعاً: بيئات العمل تغيّرت بشكل يجعلنا أقل إنسانية. منذ أن دخل الذكاء الاصطناعي مكاتبنا، بدأنا نتصرّف كأننا نعمل في صوامع منفصلة، أجساد متجاورة لكن كل واحد منا محاط بجدار غير مرئي. هذا الجدار لم نبنه وحدنا، لقد ساعدتنا الخوارزميات على رفعه شيئاً فشيئاً، سعياً للكفاءة والسرعة وتقليل الأخطاء.
لكن ما خسرناه في المقابل لا يقل قيمة عن أي مهمة أنجزناها بدقة: خسرنا تلك التفاصيل الصغيرة التي كانت تمنح يوم العمل طعماً مختلفاً. محادثة عابرة عند آلة القهوة، ضحكة مشتركة على خطأ سخيف، حتى النظرات المتبادلة التي تقول من دون كلام “اليوم متعب، أليس كذلك؟”. الذكاء الاصطناعي لا يعرف شيئاً عن هذا كله، ومع مرور الوقت بدأنا نحن أيضاً ننسى.
الوحدة التي لا يراها أحد
الأبحاث الحديثة تؤكد ما نشعر به، حتى لو لم نعترف به لأنفسنا: الاعتماد المتزايد على الذكاء الاصطناعي يجعلنا أكثر عزلة. ليس لأن الآلات “سيئة” أو لأنها تسرق وظائفنا، بل لأنها تسحب من بيننا المساحة التي كانت مخصصة للتواصل البشري.
النتيجة؟ وحدة صامتة لا تظهر في تقارير الأداء ولا في الاجتماعات الأسبوعية. نؤدي مهماتنا بكفاءة منقطعة النظير، لكننا نعود إلى منازلنا محمّلين بشعور خفي أن هناك شيئاً ناقصاً. بعض الدراسات ربط هذا النقص بأعراض واضحة: أرق مزمن، قلق متزايد، وحتى زيادة في الاعتماد على مهدئات مثل الكحول. هذه ليست مبالغات، بل إشارات واضحة على أن النفس البشرية لا يمكنها العيش طويلًا على وتيرة صامتة بلا روابط حقيقية.
المشكلة الحقيقية ليست في الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي لم يأتِ ليخدعنا، ولم يدّعِ يوماً أنه صديق أو زميل عمل حقيقي. نحن من اخترنا أن نعامله كأنه كذلك. نحن من سمحنا له أن يأخذ مكان الحوارات الصغيرة، أن يختصر العلاقات المهنية في تبادل أوامر وملفات، كأن العمل ليس سوى سلسلة مهمات تُنجز في أسرع وقت ممكن.
الأخطر من ذلك أننا بدأنا نقنع أنفسنا بأن هذا طبيعي. نردّد جملة “الأهم أن العمل يسير بكفاءة”، كأن الكفاءة وحدها تكفي لملء الفراغ الذي تركته الروابط الإنسانية.
لا نحتاج إلى آلات أكثر وديّة
قد يقترح البعض حلًا سهلًا: تصميم ذكاء اصطناعي أكثر “إنسانية”، يبتسم، يمازحنا، وربما يتحدث معنا عن الطقس. لكن هذه فكرة مضلّلة وخطيرة في الوقت نفسه. لسنا بحاجة إلى آلات تتظاهر بأنها بشر، نحن بحاجة إلى أن نتذكر أننا بشر بالفعل.
الحل أبسط بكثير مما نتصوّر: أن نعيد النظر إلى بعضنا. أن نسأل الزميل الجالس إلى جانبنا عن حاله، وليس فقط عن موعد تسليم التقرير. أن نتذكر أن تبادل ضحكة قد يكون أهم لصحتنا النفسية من إنجاز مهمة قبل الموعد بيومين. الذكاء الاصطناعي قد يساعدنا على إنجاز العمل، لكنه لن يساعدنا إطلاقاً على الشعور بأننا جزء من هذا العمل حقاً.
الذكاء الاصطناعي ليس عدواً، لكنه أيضاً ليس صديقاً. إنه مجرد أداة، وما نخسره اليوم ليس بسببه وحده، بل بسبب استعدادنا للتخلي عن إنسانيتنا لمصلحة السرعة والكفاءة. ربما علينا أن نتوقف قليلًا ونفكر: ما الفائدة من عمل مثالي إذا كنا ننجزه ونحن نشعر أننا غرباء في المكان الذي نقضي فيه نصف حياتنا؟