فرنسا تترك غرب إفريقيا: تغييرات كبيرة تعيد تشكيل التوازن في شمال القارة

في تحوّل حاسم يعيد رسم موازين القوى على حدودها، تجد دول شمال أفريقيا نفسها أمام مشهد جديد متقلب وتحديات غير مسبوقة أمنياً واقتصادياً وسياسياً، وذلك على وقع الانحسار المتسارع للنفوذ الفرنسي في غرب القارة.
وأعلنت فرنسا هذا الأسبوع إنهاء وجودها العسكري في السنغال، حليفها التقليدي، بعدما كانت قد أخلت قواعدها سابقاً في مالي والنيجر وبوركينا فاسو. تطورٌ كبير يعكس التراجع الحاد لدور باريس في إحدى أهم مناطق نفوذها التاريخي في أفريقيا، وهو تراجعٌ لم يكن متوقعاً قبل سنوات قليلة. إلا أن هذا الانسحاب يطرح في الوقت نفسه تحديات مباشرة على دول شمال أفريقيا، التي غالباً ما تتأثر بهزات الساحل الأمنية والسياسية، ما يُجبرها على إعادة النظر في استراتيجياتها الأمنية والحدودية.
انعكاسات مباشرة وغير مباشرة
ويرى متابعون للشأن الأفريقي أن انسحاب فرنسا من السنغال ستكون له تداعيات مباشرة وغير مباشرة على شمال القارة، بحكم الترابط التاريخي والجغرافي بين المنطقتين.
ويقول المحلل السياسي نزار مقني، لـ”النهار”، إن “هذا الانسحاب، وإن أملته جملة من المعطيات، فإنه يحمل انعكاسات جيوسياسية كبرى على شمال أفريقيا”، مشيراً إلى أنه لا يمكن قراءة ما يجري بمعزل عن الانهيار التدريجي لمنظومة “فرانسافريك”، التي كانت لعقود الذراع الفرنسية في أفريقيا جنوب الصحراء.
ويضيف أن “دول الشمال، ولا سيما منها الجزائر وتونس والمغرب، لطالما نظرت إلى فرنسا كضامن سياسي وأمني، لكن باريس بإخلائها قواعدها في الغرب تُرسل إشارات واضحة الى أنها لم تعد قوة يُعوّل عليها”. ويخلص إلى أن “هذا التراجع سيُضعف ثقة النخب المغاربية بفرنسا، ويُعزّز من خطاب السيادة والانفتاح على شركاء جدد في السياسة الدولية”.
من مراسم تسليم آخر قاعدة فرنسية عسكرية في السنغال. (أ ف ب)
موازين جديدة
التراجع الفرنسي في غرب أفريقيا يعيد تشكيل المشهد الاستراتيجي ويُفسح المجال أمام لاعبين جدد، إقليميين ودوليين، لسدّ الفراغ.
ويؤكد أن روسيا تُعدّ من أبرز القوى الساعية إلى توسيع نفوذها عبر “القوة الرمادية” وأذرع مثل مجموعة “فاغنر”، فيما تستثمر تركيا في أدوات القوة الناعمة، وخصوصاً في موريتانيا والسنغال ومالي. أما الصين، فتمضي قدماً في مشاريع البنية التحتية ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، ما ينعكس مباشرة على موانئ الجزائر وتونس والمغرب.
مخاوف أمنية متصاعدة
لكنّ الخطر الأمني يبقى في صدارة التحديات التي تواجه شمال أفريقيا، حيث كان الوجود العسكري الفرنسي في غرب القارة يُعدّ خط الدفاع الأول ضد التهديدات الإرهابية وشبكات التهريب والهجرة غير النظامية.
ويحذّر مقني من أن الفراغ الذي خلّفه انسحاب فرنسا من منطقة الساحل سيتحوّل إلى مصدر اضطراب مباشر لشمال أفريقيا، في ظل تنامي نفوذ الجماعات الإرهابية مثل “القاعدة” و”داعش” في مالي والنيجر.
ويضيف: “هذه الجماعات قد تتقدم شمالاً، ما يزيد الضغط على الحدود الجزائرية والتونسية والليبية”. كما يُرجّح ارتفاع وتيرة الهجرة غير النظامية وتهريب السلاح والمقاتلين، ما سيُجبر دول شمال أفريقيا على مراجعة عقيدتها الأمنية.
تحوّل في خيارات السياسة الخارجية
في ظل هذا الانسحاب، تسعى باريس إلى إعادة تعريف علاقاتها مع أفريقيا على أسس اقتصادية وتنموية وثقافية، بعيداً من الوجود العسكري. لكن تراجع نفوذها يضع دول شمال أفريقيا أمام ضرورة تنويع شراكاتها الدولية.
ويقدّر مقني أن الجزائر قد تمضي في تعميق علاقاتها مع روسيا، وربما تطالب بإعادة التفاوض بشأن ملفات الذاكرة والتعاون العسكري. أما المغرب، فقد يُعيد تموضعه بشكل أقرب إلى تركيا والصين، بالتوازي مع مراجعة علاقته بفرنسا في ضوء أولوياته في ملف الصحراء الغربية. في حين أن تونس، رغم ضيق هامش حركتها، “تتطلع إلى خيارات خليجية وشرقية لتأمين دعم اقتصادي وسياسي بديل”، على حد قوله.