وزير أردني يُصدر “إنذاراً” حول الجامعات: هل هو تشويه للسمعة أم تصويب للأوضاع؟

حظيت تصريحات لوزير التعليم العالي والبحث العلمي الأردني عزمي محافظة قبل أيام، باهتمام واسع لا يزال مستمراً وسط حالة من الجدل الواسع بين من رأى في تصريحاته إساءة للجامعات الأردنية وتشويهاً لسمعتها، في مقابل من اعتبر أن التصريحات تعبر عن نزاهة الوزير وجرأته في دق ناقوس الخطر أملاً في تصويب الأوضاع.
الوزير محافظة كان عبر في تلك التصريحات عن قلقه البالغ إزاء نتائج مؤشر النزاهة البحثية الذي صنّف جامعات أردنية في مستويات مقلقة، متحدثاً في الوقت ذاته عن انتشار ممارسات غير نزيهة في مجال البحث العلمي، أبرزها سرقة وتزوير الأبحاث واللجوء المفرط إلى تطبيقات الذكاء الاصطناعي.
وأشار إلى أن بعض الجامعات بدأت بتزوير الأبحاث بهدف تحسين تصنيفها الأكاديمي، وهو ما يُعد تدميراً ممنهجاً لثقة المجتمع الأكاديمي العالمي بتلك التصنيفات، مضيفاً أن الظاهرة بدأت في الجامعات الخاصة ثم انتقلت إلى بعض الجامعات الرسمية.
كما تطرق إلى وجود ممارسات أخرى مقلقة، كقيام بعض الجامعات بدفع أموال للاشتراك في مؤتمرات وأبحاث دعائية، أو منح مسميات شرفية وتعيينات فخرية لباحثين أجانب فقط ليتم نسب إنتاجهم العلمي للجامعة، بهدف تعزيز رصيدها البحثي في التصنيفات العالمية، مشدداً على أن سمعة التعليم العالي والبحث العلمي الأردني ستتأثر حتماً ما لم تُتخذ إجراءات فورية لمراجعة سياسات النشر والتصنيف.
تصنيف لعدد من الجامعات بمؤشر النزاهة البحثية (إعلام أردني)
تساؤلات أعمق وأكثر أهمية
بشأن ذلك، يقول وزير الثقافة الأردني الأسبق الدكتور محمد أبو رمان لـ”النهار” إن “الجدل الواسع لم يكن كله علمياً أو هادئاً، بل انزلق البعض إلى الشخصنة وسوء الفهم، في الوقت الذي تحدث فيه الوزير عن ظواهر موجودة وتستحق الوقوف عندها بمسؤولية لا بمبالغات”، مشيراً إلى أنه “من المعروف عن الوزير جرأته وصراحته ودقته، بما لا ينسجم مع كثير من الاستنتاجات والتأويلات التي أخرجت تصريحاته بصورة كاملة عن سياقها”.
لكن ذلك الجدل كما يرى أبو رمان “فتح الباب لطرح تساؤلات أعمق وأكثر أهمية حول حال التعليم العالي في الأردن، وهو أمر جيد في ذاته إن أخذ بوعي، لأنّه لا يخفى على أحد أنّ التعليم العالي لدينا ليس في أفضل أحواله، وأنّه شهد تراجعاً ملحوظاً خلال العقود الماضية مقارنة بالبدايات الطموحة التي رافقت تأسيس الجامعات الوطنية”.
ويضيف: “مررنا بمراحل صعبة، سواء على مستوى البنية الأكاديمية أو مخرجات التعليم أو حتى ظواهر مقلقة كالعنف الجامعي، ناهيك عن ضعف البحث العلمي، خصوصاً في حقول العلوم الاجتماعية والإنسانية. في المقابل من غير المنصف تجاهل التحولات الإيجابية التي تشهدها العديد من الجامعات الأردنية اليوم، سواء في تطوير البنية التحتية، أو تجديد أدوات وأساليب التدريس، أو التوسع في الابتعاث الأكاديمي، أو حتى في إعادة الاعتبار لمفاهيم الجودة والاعتمادات الدولية، التي لم تكن من صميم التفكير الجامعي في المراحل السابقة”.
ويشدد أبو رمان على أنه “لا أحد يعترض على أن يكون هناك نقد لمسيرة التعليم العالي، بل هو ضروري، لكن النقد الحقيقي لا يجب أن يكون إنكاراً للإنجازات، أو تقليلاً من الجهود، بل تفعيلاً للعقلية النقدية من داخل المنظومة نفسها، ومراكمة على ما تحقق، لتستعيد الجامعات الأردنية مكانتها التي تستحقها – لا فقط في الذاكرة، بل على أرض الواقع”.
ما بعد التصريحات
ومن وجهة نظر أستاذ الإعلام الرقمي في جامعة اليرموك الأردنية الدكتور علي الزينات، فإن “مضمون تصريحات الوزير ليس مفاجئاً، وبخاصة بين الوسط الأكاديمي الذي يدرك غالبيته حقيقة ما تعيشه جامعاتنا، لكن المفاجئ أن تأتي هذه التصريحات من أعلى هرم في التعليم العالي الأردني”.
ويصيف الزينات لـ”النهار” أن “الأمر الأهم هو ما بعد هذه التصريحات وكيف ستتعامل الحكومة مع هذه التحذيرات التي أصفها بأنها ناقوس خطر، فهل ستقوم الحكومة بوقفة جادة وفتح ملف الجامعات والتعليم في الأردن حتى لا ينهار النظام التعليمي الجامعي في السنوات القادمة؟”.
ويتابع: “سواء ما خرج عن الوزير كان موفقا أم غير موفق، فإننا أمام حقيقة لا يمكن نكرانها وهو أننا أمام معضلة حقيقية تعاني منها الكثير من جامعاتنا منذ سنوات تتطلب من الوزارة بوصفها المظلة الأوسع المسؤولة عن التعليم العالي في الأردن إعادة النظر في استقلالية الجامعات الحكومية وأن تتحول إلى مسؤولية مقيدة، بحيث أن يكون للوزارة بعدد من الملفات المسؤولية والقرار النهائي وأن لا تترك هذه الاستقلالية المطلقة لإدارات الجامعات أو مجالس الأمناء، فالوزارة ومن باب الحرص على سمعة التعليم والجامعات الأردنية هي الجهة التي يجب أن تتصدى للتراجع في كثير من الجامعات وفي عديد الملفات وبخاصة فيما يتعلق بالوضع المالي للجامعات إلى جانب الوضع الأكاديمي أيضا”.
وبحسب الزينات: “هناك مصالح شخصية مرتبطة بإدارات بعض الجامعات والتي تلهث نحو التصنيفات العالمية والأرقام الأمر الذي شجع الكثير من الأكاديميين على عدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية في البحث والنشر العلمي وعدم الاهتمام بجودة الإنتاج العلمي مع تغاضي إدارات الجامعات عن المعالجة أو المحاسبة في سبيل التقدم على قوائم التصنيف العالمي، مع اعتقادي بأن تلك الإدارات ليس همها مصلحة الجامعة بل مصالحها الشخصية وحتى يقال إن الجامعة تقدمت في عهدها”.
الدكتور علي الزينات (أرشيفية)
واقع الجامعات مقلق
إلى ذلك، يقول المهندس أُسيد ربابعة: “إن تصريحات لم تكن مفاجئة بقدر ما كانت محبطة، ليس لأنها غير صحيحة، بل لأنها جاءت من جهة مسؤولة، لكنها لم تُتبع بأي إجراء فعلي”.
ويؤكد ربابعة لـ”النهار” أن “واقع الجامعات الأردنية مقلق. هناك ضعف واضح في البحث العلمي، ومناهج غير محدثة، وتخريج أفواج من الطلبة دون توافق حقيقي مع سوق العمل. لكن الأهم من كل ذلك أن هذه المشاكل ليست جديدة. الكل يعرفها، والوزير نفسه جزء من منظومة لديها أدوات التغيير، لكنها لم تستخدمها”.
ويرى أن “المؤسف في الأمر هو أن تصريحات الوزير ساهمت في تشويه صورة الجامعات الأردنية في الداخل والخارج، دون أن تصحبها خطوات عملية تعزز الثقة أو تدعم البيئة الأكاديمية، خصوصاً في مجال البحث العلمي الذي يعاني من إهمال مزمن. أين الخطط؟ أين التمويل؟ وأين القرار السياسي الجريء الذي يفترض أن يصاحب هذا التشخيص القاسي؟”.
ووفق ربابعة: “إذا كنا نعيش أزمة، فلا يكفي أن نصفها في الإعلام. نحتاج لإرادة إصلاحية تبدأ بإعطاء الجامعات استقلاليتها، وتحفيز البحث الحقيقي، وتقييم الأداء بعيداً عن المجاملة، وربط الجامعات بقضايا المجتمع لا فقط بساعات المحاضرات. الاعتراف بالمشكلة ضروري، لكن دون خطوات عملية، تصبح التصريحات مجرد عناوين عابرة لا تترك أثراً، إلا على سمعتنا”.
اقرأ أيضاً: “اللي حبلها يولدها”… تصريح لمسؤول أردني يفجر ردود فعل واسعة (فيديو)
تصحيح مسار الجامعات
أما الناشط الشبابي الأردني إبراهيم عبيدات، فيرى في حديثه إلى “النهار” أن “تصحيح مسار الجامعات أصبح ضرورة وطنية، تبدأ من إعادة النظر في منظومة البحث العلمي وآليات الترقية الأكاديمية داخل الجامعات”.
ويوضح أن “أحد أبرز التحديات يكمن في ضعف الدعم المخصص للبحث العلمي. نحن من الدول القليلة جداً التي تخصص نسبة متدنية للغاية للبحث العلمي، وهذا يؤثر سلباً على الحافز لدى الباحثين والأساتذة الجامعيين، الذين يجدون أنفسهم يبذلون جهداً كبيراً مقابل مردود لا يتناسب مع حجم تعبهم”.
ويشير عبيدات إلى أن “هذا الضعف في الحوافز المادية والأكاديمية دفع البعض إلى اللجوء لاستخدام الذكاء الاصطناعي بشكل مفرط، أو حتى شراء أبحاث جاهزة من جهات خارجية، وفي بعض الحالات أصبح الطالب هو من يُعدّ البحث نيابة عن الأستاذ الجامعي”.
ويضيف أن “معايير الترقية في الجامعات تحتاج إلى مراجعة شاملة، إذ بات عدد من الأكاديميين ينشرون أبحاثاً بكثرة دون الاهتمام بجودتها أو قيمتها العلمية”، مؤكدا في الوقت ذاته ضرورة “ربط الترقية بنشر الأبحاث في مجلات محكمة، قوية، ومعترف بها عالمياً، لا في مجلات هامشية لا تضيف شيئاً للمحتوى العلمي”.
وفيما يتعلق بتمويل الجامعات، يعتبر عبيدات أن “الجامعات أصبحت تركز بشكل مفرط على الجانب المالي، فتُعامل كمؤسسات جباية بدلاً من كونها مؤسسات علمية بحثية”، مضيفًا أن “بعض الجامعات تسعى لرفع تصنيفها الدولي بأي وسيلة، حتى لو تطلب الأمر شراء تصنيفات أو تضخيم أرقام الأبحاث دون مضمون حقيقي”.
ويتابع: “عندما تُسوّق الجامعة لنفسها دولياً على أنها ذات تصنيف مرتفع، فإنها تستقطب طلبة يدفعون مبالغ باهظة، لكن هذا التصنيف في كثير من الأحيان لا يعكس الواقع الأكاديمي، وسواء كانت الجامعات خاصة أو رسمية، يجب ألا تطغى الأهداف الربحية على الرسالة الأكاديمية، لأن هذا المسار المتصاعد يتعارض مع السياسات الوطنية ويُفقد الثقة بالمؤسسات التعليمية”.
مشهد من الجامعة الأردنية (أرشيفية)