ألبانيزي والولايات المتحدة و”المحرقة الإسرائيلية”… شبح قانا يظهر من جديد!

ألبانيزي والولايات المتحدة و”المحرقة الإسرائيلية”… شبح قانا يظهر من جديد!

في 18 نيسان/ أبريل 1996، قصفت القوات الإسرائيلية مركزاً للأمم المتحدة، في قرية قانا بجنوب لبنان، فقتل 106 مدنيين لبنانيين كانوا يحتمون بالمركز. بطرس بطرس غالي (مصري الجنسية) الأمين العام للأمم المتحدة- آنذاك- أمر بإجراء تحقيق مستقل، أثبت أن القصف الإسرائيلي كان متعمداً، فاستخدمت أميركا “الفيتو” لمنع إدانة إسرائيل. ثم عاقبت بطرس غالي بفيتو آخر لمنع تجديد ولايته، عقاباً لنشره تقرير “قانا”، وأجبرته على مغادرة منصبه في نهاية ولايته الأولى عام 1996، ما أثار جدلاً واسعاً حول استقلالية الأمم المتحدة وسيطرة واشنطن على قراراتها!

ما أشبه الليلة بالبارحة!… ألقت فرانشيسكا ألبانيزي (إيطالية الجنسية) المقررة الخاصة للأمم المتحدة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، تقريراً بعنوان “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة”، أمام مجلس حقوق الإنسان، أخيراً، شن هجوماً عاصفاً على جرائم إسرائيل في قطاع غزة، ودعا الى فرض عقوبات وحظر أسلحة عليها، وطالب المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق مع مسؤولين إسرائيليين وأميركيين. ألبانيزي قالت إن دولاً تساند إسرائيل في مشروعها للهيمنة وتهجير الفلسطينيين، وأن 60 من شركات الأسلحة العالمية وفرت لتل أبيب 35 ألف طن من المتفجرات ألقتها على القطاع، تعادل 6 أضعاف القوة التدميرية للقنبلة النووية على هيروشيما، من بينها شركات أسلحة، مثل: لوكهيد مارتن، ليوناردو، إلبيت، وتكنولوجيا وتجسس مثل: مايكروسوفت، ألفابت، أمازون وغوغل، وآليات ثقيلة مثل: كاتربيلر وهيونداي، ومصارف غربية مثل: باركليز البريطاني وبي إن بي الفرنسي. شبكة معقّدة من كيانات عملاقة تدعم الاحتلال، توفر لإسرائيل منظومات السلاح والتجسس والتمويل، كي تواصل الإبادة الجماعية.

تزامن ذلك مع بلوغ الهجمات الإسرائيلية على غزة حداً مروعاً من التدمير وقتل عشرات الألوف من المدنيين، كما نزح مليونا شخص، مراراً وتكراراً، واستخدمت إسرائيل الجوع “سلاحاً” ضد المدنيين، وهو جريمة حرب بموجب القانون الدولي.

رداً على التقرير، طالبت واشنطن الأمم المتحدة بإقالة ألبانيزي. أعلن وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو أنها “غير صالحة” لمنصبها، ووضعها على قائمة العقوبات، بتجميد أصولها ومنعها من السفر الى الولايات المتحدة، واتهمها بـ”معاداة السامية” و”دعم الإرهاب”، وبذل “جهود مخزية” لتحريض “الجنائية الدولية” على ملاحقة مواطنين وشركات أميركية وإسرائيلية، معتبراً أن ذلك حرب سياسية واقتصادية على بلاده وإسرائيل.

في مواجهة قوى عظمى مثل أميركا، أبدت فرانشيسكا ألبانيزي التزاماً بحقوق الإنسان والعدالة. تعهدت مواصلة عملها، في توثيق انتهاكات حقوق الفلسطينيين، وقالت إن الاتهامات الأميركية تحريف لعملها، والعقوبات عليها “ترهيب مافيوي”، وأردفت: “أنا منشغلة بتذكير الدول بالتزاماتها لوقف الإبادة، ومن يستفيد منها”. أغضبت ألبانيزي الولايات المتحدة التي تعارض تدخل المحكمة الجنائية الدولية في شؤون حلفائها، ولاسيما منهم إسرائيل، فقد مسّت “العصب الحساس”، أي التحالف بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والشركات العالمية، ما استدعى ردة الفعل الأميركية الخارجة عن المنطق والأعراف.

العقوبات الأميركية على ألبانيزي عقوبات شخصية ومباشرة، وهي سابقة خطيرة استثنائية وغير معتادة، هي الأولى من نوعها بين واشنطن والأمم المتحدة. لذلك أثارت موجة من الانتقادات من جانب المنظمات الحقوقية والعفو الدولية والأمم المتحدة، رأى فيها رئيس مجلس حقوق الإنسان والأمين العام لمنظمة العفو الدولية “تهديداً خطيراً” لاستقلالية “المقررين الخاصين”، ما يعكس تغيراً في أساليب الضغط الأميركية، التي أصبحت تستهدف الأفراد بالإضافة إلى المؤسسات، في محاولة فجّة لإسكات الأصوات المعارضة والناقدة للسياسات الإسرائيلية والأميركية، وإضعاف استقلالية المنظمات الدولية كالأمم المتحدة. بذلك، أصبحت ألبانيزي صوتاً للملايين الذين يطالبون بفرض عقوبات على الكيان الصهيوني الذي يمارس الإبادة الجماعية، استناداً إلى حقائق دامغة.

فرانشيسكا ألبانيزي سيدة تملك قلباً من ذهب وضميراً حياً، أرّقتها التكلفة الإنسانية الهائلة التي خلّفها النفاق الغربي و”الحصانة” الظالمة التي تسبغها أميركا على إسرائيل، وتغاضيها عن جرائم الاحتلال والتطبيق الانتقائي للقانون، وهو أمر يتجاوز حدود المأساة الرهيبة في غزة؛ إذ يشجع الأنظمة المستبدة على تجاهل القانون الدولي، وارتكاب الجرائم من دون مساءلة، مادامت تمتلك حلفاء أقوياء يدافعون عنها، ما يضعف شرعية المؤسسات الدولية وفكرة (العدالة) نفسها. كيف يمكن مطالبة الآخرين بالعدالة إذا لم تُطبق بشكل متساوٍ؟ العدالة الانتقائية لا يمكن أن تكون عدالة حقيقية. العجيب أن تقرير ألبانيزي ترافق مع زيارة تضامنية لإسرائيل قام بها أئمة- يمثّلون جاليات مسلمة بأوروبا- بما يتنافى مع أي حس أخلاقي أو إنساني!

إن ما فعلته ألبانيزي يظهر ما قد يحدث، عندما يصطدم حب العدل بحواجز السياسة. أثبتت هذه السيدة الإيطالية أن النضال من أجل حقوق الفلسطينيين هو في جوهره نضال من أجل روح الإنسانية، وأن إنهاء الحصانة الإسرائيلية ليس مطلباً للعدالة، بل ضرورة لاستعادة الثقة بالقانون الدولي. أمست فرانشيسكا ألبانيزي أيقونة إنسانية، وهو ما استشعره العالم عندما تصاعد الزخم الشعبي والسياسي دولياً لترشيحها لنيل جائزة نوبل للسلام، تقديراً لإنسانيتها وشجاعتها الفائقة في وجه الإمبراطورية!