في غياب محمد بن عيسى

في غياب محمد بن عيسى

حاتم البطيوي

ها هو جسده يغيب، لأول مرة منذ أكثر من 45 سنة، عن فعاليات موسم أصيلة الثقافي في دورتيه الربيعية والصيفية، وقريباً في دورته الخريفية. لكن روحه بقيت، وستبقى، حاضرة ومرفرفة فوق سماء هذه المدينة المغربية الصغيرة والبسيطة، التي ملأت الدنيا وشغلت الناس.
كل شيء مضى كما أراد وتصور. فقد حدّد الراحل محمد بن عيسى، وهو على فراش المرض، ملامح برنامج “أصيلة 46″، تخفيفاً عن زملائه في مؤسسة منتدى أصيلة من وطأة الغياب، وضماناً لسلاسة التنظيم كما اعتاد طوال حياته.
رافقتُ الراحل بن عيسى عن بُعد، كأحد أطفال أصيلة الذين كبروا في كنف موسمها الثقافي، ووجدوا ضالتهم في مرسم الأطفال بقصر الثقافة، كما رافقته عن قُرب مع توالي الأيام والسنين.
ظل “السي بن عيسى”، بالنسبة لي ولزملائي وأصدقائي في جمعية المحيط، التي أصبحت لاحقاً مؤسسة منتدى أصيلة، شخصية متعددة الأبعاد والمزايا. فهو المثقف، والسياسي، والديبلوماسي، والفنان، والمرشد، والمعلم، والمربي… وقبل كل شيء، الإنسان، الذي تُدرك من اللحظة الأولى نفحته الإنسانية الفذّة.
قبل أكثر من أربعة عقود، أذكر، وأنا طفل، كيف وقفتُ بجانبه أمام جدارية فنية يُنجزها أحد الفنانين. رميتُ ورقة على الأرض، فلاحظ ذلك، ثم انحنى والتقطها ووضعها في أقرب سلة للمهملات.
لم ينبس “السي بن عيسى” آنذاك ببنت شفة، لكنني استوعبت الدرس. ومنذ ذلك الحين، صرت حساساً جداً تجاه رمي أي شيء في الشارع، بل لا أحتمل رؤية أحدٍ يفعل ذلك.
إن ما حققه بن عيسى في أصيلة، على امتداد أكثر من أربعة عقود، هو، في نهاية المطاف، إنجاز في خدمة الإنسان. لذا، ظل البعد الإنساني، إلى جانب البعدين الثقافي والسياسي–الديبلوماسي، محوراً أساسياً في مسيرته المتميزة.

 

محمد بن عيسى.

 

منذ انطلاقة مشروعه الثقافي والتنموي في أصيلة، راهن بن عيسى على الطفل باعتباره عماد المستقبل، وحرص على أن ينشأ هذا الطفل في بيئة نظيفة تُلهمه الإبداع، وتمكّنه من النظر إلى العالم بروح إيجابية مفعمة بالجمال والفن. ومن هنا، جاءت فكرة إنجاز الجداريات الفنية في أزقة المدينة العتيقة.
وفي سياق الحديث عن الجانب الإنساني لدى الراحل بن عيسى، روى لي صديقي الوزير والسفير السابق عبد السلام بركة أنه، حين عُيّن وزيراً للعلاقات مع البرلمان وهو في سن الثانية والثلاثين، وكان “السي بن عيسى” قد سبقه إلى الوزارة، لاحظ ما شعر به من برود في تعامل بعض زملائه الوزراء معه لصغر سنّه. فبادر، رحمه الله، إلى تنظيم مأدبة عشاء في بيته على شرفه، لفتح باب التعارف والتواصل بينه وبين باقي أعضاء الحكومة، وتذويب الجليد.
ويقول بركة إنه لن ينسى له هذه الالتفاتة النبيلة، إلى جانب صداقته وخصاله الإنسانية المعروفة.
ومن الطرائف التي رواها لي الراحل بن عيسى، أنه عندما عُيّن وزيراً للثقافة سنة 1985، التقى زميلاً له في الحكومة بأحد فنادق الرباط المصنفة. بدا القلق واضحاً على محياه، ولم يرتَح إلا حين فجّر غِلّه قائلاً بلا تردد: “منصب وزير كبير عليك… يكفيك منصب كاتب دولة”!
ابتسم بن عيسى، وردّ عليه بهدوء: “يبدو أنه حدث خطأ ما، فجرى تعييني وزيراً”.
لقد عُرف عن الراحل بن عيسى سعة صدره، وانفتاحه على الجميع، وتسامحه الكبير. فحتى حين كان يملك الدليل على إساءة البعض إليه، كان يتجنب الدخول في معارك عبثية، آملاً أن يُصلح المسيء نفسه، لأنه، في النهاية، لا يصح إلا الصحيح.
حين أطلق بن عيسى مشروعه الثقافي، عام 1978، رفع شعار “الثقافة من أجل التنمية”، فاستصغره البعض، واعتبره آخرون ضرباً من الخيال أو الجنون. لكنهم نسوا أن شيئاً من الجنون، أو كثيراً منه، هو ما يصنع التاريخ.
لم تكن مسيرته في “مشروع أصيلة” سهلة، بل واجه صعوبات جمة، لكنه، بعزيمته وصبره وتسامحه، وبدعم ملكي سامٍ، استطاع تجاوزها جميعاً.
ولا يمكن أن نغفل الدور الكبير الذي لعبه الملك الراحل الحسن الثاني في دعم أصيلة، إذ استشرف، بفراسته، ما كان بن عيسى ينوي إنجازه، فسمح لوليّ عهده، الأمير سيدي محمد آنذاك، بأن يكون الرئيس الشرفي لموسم أصيلة الثقافي منذ بداياته. وقد استمر هذا الدعم الكريم في عهد الملك محمد السادس، الذي زار أصيلة سنة 1978، وهو في الخامسة عشرة من عمره، خلال الدورة الأولى من الموسم الثقافي الدولي، واطّلع على أوراش الفنون في قصر الثقافة. ومنذ ذلك الحين، ظل عطفه ورعايته ملازمين للمدينة.
الحديث عن محمد بن عيسى لا يُختزل في كلمات، ولا يُوفى في سطور. وما يمكن قوله هنا هو أن الراحل ظلّ، حتى آخر لحظاته، يلهج باسم محبوبته “أصيلة”، تاركاً وصايا كثيرة بشأنها، حرصاً على الحفاظ على روح المدينة ورسالتها، وأيضاً إشعاعها الممتد إلى مختلف الآفاق، وصورتها المشرقة عن المغرب المتعدد، والمتسامح، والمنفتح… والواعد أيضاً.