الخوارزميات والقوة الخامسة | النهار

في ظلّ الحديث والضجيج المتصاعد حول الذكاء الاصطناعي، ذاك الشبح الذي لا نراه بعدُ بصورة واضحة، ويتحكم بنا من خلف فوضى المعلومات، بل يعيد تشكيل خياراتنا وسلوكياتنا وأحكامنا، نعود كما يعيدنا تقرير MIT Sloan إلى طرح السؤال الجوهري: هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يعمل من دون منظومة أخلاقية؟
لا يناقش تقرير MIT Sloan Management Review الذكاء الاصطناعي كتقنية فحسب، بل يذهب بنا إلى ما هو أعمق، إلى فلسفة فكرة الذكاء الاصطناعي والغوص في فلسقة تقنياتها. فالحديث عن الأخلاق جزءٌ حاضر في جميع محاضراتي الجامعية والمهنية، حيث أعيد طرح السؤال نفسه في كل مرة: ما هي الأخلاق، ومن أين تأتي؟ وكيف تُصاغ وتتشكل وتنعكس على قراراتنا اليومية والاجتماعية والسياسية؟
لطالما كانت الفلسفة تُعتبر مادة نظرية، ومجرد سرديات أخلاقية موجهة إلى النخبة أو الأكاديميين. لكن الذكاء الاصطناعي اليوم يُعيدها إلى الواجهة، لا بل إلى قلب النقاش. فكيف نبني أنظمة تتخذ قرارات نيابة عن البشر، دون أن نسأل من يزرع القيم في الخوارزميات؟ ومن يحدد ما هو “صائب” أو “خاطئ” عندما تكون الآلة هي الفاعل ونحن المفعول به؟
هنا، لا بدّ لنا من الحديث عن موضوع أساسي في سياق الوعي بالذكاء الاصطناعي، وهو “تحديد المعاني”. فهذا الجانب يرتبط مباشرة بمفهوم الوعي؛ ذلك الوعي الذي يسعى الذكاء الاصطناعي إلى الوصول إليه من خلالنا نحن البشر.
وتنبثق من هذا النقاش نقطة أكثر عمقاً: نشوء نوع جديد من السلطات. فبعد السلطة الرابعة، أي الإعلام، نشهد اليوم ولادة “السلطة الخامسة”: السلطة الخوارزمية. وهذه السلطة لا تكتفي بالتأثير، بل تتحكم بشكل مباشر وبأشكال غير مباشرة بكل السلطات الأخرى، من السياسة والاقتصاد إلى الإعلام، وحتى القضاء. هي السلطة التي يُعاد بوساطتها صوغ المنطق البشري بلغة رقميّة، ونعيد استهلاكها بلغة طبيعية، أي لغتنا المكتوبة والمنطوقة.
من هنا، ينبع سؤال لا يقلّ أهمية: من أين تأتي تلك المعلومات والمعارف؟ ومن يحدّد معانيها؟
البيانات التي أصبحت تتحكم بتفاصيل حياتنا تُفسَّر اليوم عبر أنظمة وتطبيقات وشركات كبرى، تُظهر –عند التمحيص– أنها توظّف أفراداً من مختلف أنحاء العالم، وتحديداً من مجتمعات مهمشة اقتصادياً، للعمل في تصنيف المحتوى أو “توسيم البيانات” (Data Labeling). هؤلاء الشباب، من دون إدراك عميق لطبيعة عملهم، يساهمون في تعليم الآلة كيف ترى العالم، وكيف تفسّره، وكيف تصدر أحكامها.
كيف يمكن لمن لا يُدرك معنى ما يُنتجه أن يكون مسؤولاً عن وعي آلة قد تتخذ قرارات حاسمة لاحقاً؟ هنا تكمن الإشكالية الأخلاقية الأعمق، وهنا تظهر ضرورة عودة الفلسفة، لا كتأمل، بل كأداة مساءلة ومحاسبة وتوجيه.
لكن التحدي لا يقف عند حدود الذكاء الاصطناعي وحده. فاليوم، وبعيداً عن كل ما هو رقمي، نشهد انحداراً كبيراً في أخلاقيات المجتمع.
انحدار يبدأ من الصداقات ولا ينتهي بالسياسات. معاني الأشياء تغيّرت، وتفسيراتها كذلك. لم يعد “ما هو أخلاقي” أو “غير أخلاقي” هو معيار اتخاذ القرار، بل باتت المحركات الأخرى هي الأساس: الربح، الشهرة، حب الظهور.
الكثيرون منا، ومن حولنا، فقدوا هويتهم الأصلية. ثم جاء الذكاء الاصطناعي ليصبّ الزيت على نار هذا التيه، فبتنا لا نفقد فقط هويتنا، بل نبدأ بتشكيل هويات جديدة لا نعلم –ولا يعلم أصحابها– ما هي.
نُشكّل مجتمعات “مؤلينة” (من الـ Aliens)، حتى لنكاد نصبح نحن المخلوقات الفضائية، لا الذكاء الاصطناعي. فنحن من نعلّمه أن يكون إنساناً، أن يتصرّف كإنسان، أن يحاكي العقل والمشاعر، ونحن في الوقت ذاته، نحيد عن البوصلة الانسانية، شيئاً فشيئاً، يوماً بعد يوم. ومع كل ذلك، أتساءل وأنا في مدينة بون الألمانية في صدد المشاركة في المنتدى العالمي للإعلام للحديث عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في العمل الصحافي: كيف يمكنني أن أضع تلك البوصلة الأخلاقية في قلب هذا الحديث، دون أن أكسر جسور التواصل مع أحد؟ فالكثيرون لا يتقبلون النقد، إذ بتنا نعيش بين قطبية التحكم وقطبية التسليم.
أتساءل كيف يمكنني أن أبدأ بطرح حلول، دون أن أبدو متناقضة، وأنا نفسي أستخدم الذكاء الاصطناعي في معظم جوانب حياتي.
لكن ربما… التساؤل هو بداية الطريق. الفلسفة ليست ترفاً فكرياً، وليست مجرد “تفكير”. الفلسفة تفكّر. والتفكر يحتاج إلى وعي… وإلى وعاء. يحتاج إلى ثقافة، إلى إدراك، إلى أخلاق.
في هذا المفترق الحضاري، لا بد لنا من أن نسأل أنفسنا: هل نريد أن نكتفي باستهلاك التقنية أم بالطموح إلى أن نكون شركاء في بناء أخلاقها؟ هل نسمح للبيانات أن تُفسّر خارج سياقنا الثقافي والاجتماعي، أم نعيد نحن صوغ مفاهيمنا وقيمنا ونقدّمها للعالم كإطار مرجعي يليق بتاريخنا وحاضرنا؟
إنها لحظة تستوجب إعادة إحياء الفلسفة في مدارسنا وجامعاتنا، لا كترف نخبوي، بل كأداة نجاة.
ولعلّ السؤال الأهم الذي علينا طرحه في العالم العربي هو: كيف نعيد توطين القيم الإنسانية في قلب الذكاء الاصطناعي؟ وكيف نحافظ على هويتنا وسط تحوّل رقمي يصوغ مستقبلاً قد لا يشبهنا؟
فلنفتح هذا النقاش كأكاديميين، إعلاميين، فلاسفة، ومواطنين، ليس فقط لمواكبة الذكاء الاصطناعي، بل لصناعة مستقبل أكثر عدلاً وإنسانية وإبداعاً.