مازن كرباج الثائر: الفن كوسيلة للاعتراض

جورج خوري (جاد)
منذ رسمه الأول ومازن كرباج متمرّد يتناول قضايا السياسة والإنسان وحقوق الفرد بسخرية سوداء طبعت أسلوبه في الشريط المصوّر، هو الذي انتقل إلى ضفّة الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة عَكْس السائد في مجتمعه ومحيطه. قضايا الإنسان والعدالة مكوّن ثابت في أعماله، ساخر في معظمها حتى في أكثر الأوقات سواداً (“بيروت لن تبكي” عن العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006) حيث اختلط الموقف السياسي بالشخصي الحميم الذي وصل إلى حدّ الهذيان على رغم أن مدوّنته تعتبر الأكثر توثيقاً لمعاناة الفرد في علاقاته الحميميّة أوهذيانه الإبداعي أكثر من أي نقل أو مراسلة صحافيّة أو تحليل سياسي.
“كل ما يمكنني أن أفعله تعداد القتلى“
“الحرب على غزّة” غيّرت مازن كرباج منذ اليوم الأول، زادته سوداويّة وغضباً، وأزالت عنه السخرية السوداء التي عُرِفَ بها فالفاجعة كبيرة والمجزرة شاملة بقياسها التاريخي ويراها استمراراً للنكبة الأولى (يسمّيها نكبة2.0) تسابقه أحداثها اليوميّة، فلا يستطيع الاحاطة بها لكثرتها. يتفاجأ بتجاوز العنف كل حدود يمكن أن يدركها العقل، في ظل غياب قواعد الاشتباك في الحروب وساديّة القتل البارد من وراء شاشة طائرة يسيّرها ذكاء إصطناعي تكنولوجي لا تعنيه الحياة البشريّة، مهمّته أن يحدّد الهدف ويدمّره بقوّة لم نعهدها ومعه ماحوله وتحته وفوقه بحجره وناسه وأرضه وشجره وكل شيء نعتبره نحن أبناء البشر حيّا وذاكرة وتاريخ مكان. ربّما لأن الانسان والفنان فيه استشعر من اليوم الأول هول الحرب تنكشف تدريجاً عن “إبادة جماعيّة ممنهجة” فأراد إيقافها بصراخه ولاءاته وشعاراته ورسومه اليوميّة وأفكاره المتدفّقة التي تعصف في رأسه ولا يجد الوقت لوضعها رسماً على الورق فيكتفي أحياناً بكتابتها نصوصاً ونشرها ربّما أحد يستوحي منها، أو يضعها لنفسه كي يوثّقها يوما ما قد لا يأتي.
“رضيع قُتل يحدّق بنا غير مصدّق“
ركّز على ما لم يسبق في حروب العالم الأخرى، فانتقى ما هو خاص بالمأساة والمجزرة التي ترتكب في حقّ المدنيين العزّل. كما النجمة الصفراء رمزاً للهولوكوست رسم كرباج كَفَن الطفل الرضيع شرنقة لن تخرج منها فراشة ملوّنة لتعانق السماء وغير وظيفة كيس القمامة في ذاكرتنا العامة ليصبح جامعاً لأشلاء طفل يحمله والده إلى مصير مجهول، ووشم ليس من الفنون وإنما اسماً خطّته أم على ذراع ولدها ليمكن التعرّف إليه إذا تلاشت أشلاءه. ربما لهذا السبب لم يكرّر إنتاج مشاهد الرعب التي غمرت شاشاتنا، لعلمه أن المشاعر لا يمكن أن تدوم طويلاً أو قد تتحوّل إلى رتابة في التلقّي، وأن قصص الناس تتلاشى مع الوقت، فيما تبقى الرموز البصرية والكلمات المستفزّة محفورة في أذهاننا. هو البارع دائماً في اللعب على الكلام نراه هنا يغيّر عن قصد معنى الرموز البصريّة لتفاصيل أشياءنا اليوميّة.
“نكبة 2.0“
مُثقل بالاحساس بالذنب والعجز تجاه عنف عرف أنه لن يتوقّف قريبا وأصبح خبزنا اليومي من على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي دون القدرة على الفعل، ومن دون أن يرسم شرائط مصوّرة هي خبزه اليومي، استخدم كل تقنياتها في تصاميم حروف صوتيّة لـ”يكتب” صراخاً عالياً يريد أن يصل صداه إلى آذان عالم متواطئ مع ما يجري ويريد إسكات ضجيج يزعج رتابة الحياة اليوميّة، هو المقيم في برلين حيث تابو معاداة الساميّة وصل إلى حدود اسكات أي صوت يتعاطف أو يتماه مع ناس هم ناسه يقتلون بالصورة الحيّة أمام الجميع. رسم أصواتهم الصادحة أحرفاً كبيرة وبكلمات وجمل مختصرة أقرب إلى ملصقات تستفزّ العقل قبل العاطفة لتبقى في أذهاننا مؤبدة إذا كان للأبد من وجود بعد هذه الفجيعة، مدرك تماما أن جمهوره المستهدف هو العقل الغربي (رسومه بالانكليزيّة) وعقلانيّته التي لا تحرّكها مشاعر وإن فعلت فلأمد غير طويل.
“وثيقة الوفاة وثيقة ولادة“
يسابق الوقت، هو الذي قرّر أن يرسم يوميّاً، إلى درجة أنه وجد نفسه يوماً من دون أي شيء جديد يضيفه أو يدعو إليه ليفيق العالم ويتحرّك، فنشر صفحة بيضاء وكأنه يريد لحظة واحدة يتنفّس فيها للراحة ليستجمع أفكاره ليس لاستيعاب ما يحدث وحسب وإنما لمراجعة المبادئ والأساسيّات والتفكّر في أوهام عاشها عن قيم العدالة والمساءلة والمحاسبة وحريّة التعبير التي نشرها “الرجل الأبيض” وأقنعنا أن نتبنّاها في مجتمعاتنا نسير بها.
مازن كرباج منذ رسومه الأولى وقف من دون تردّد إلى جانب الحق المطلق والعدالة المطلقة والحريّة المطلقة ساخراً ممن يقفون في وجهها، وها هو اليوم يقف بثبات مع قلّة إلى الجانب الصحيح من التاريخ… وأتخيّله متمرّداً كما عوّدنا لكن البسمة فارقته وفي عينيه دمعة حزنٍ، يرافقها صوت آت من كتاب قديم: على من تقرأ مزاميرك…”
“المخطّط العام“
“رضيع فقد عائلته“
“أشلاء في كيس قمامة؟“
“الشعور بالذنب“
“غزّة في هاتفي“