قانون الاتصالات في لبنان: حلم مؤجل منذ عام 2002

قانون الاتصالات في لبنان: حلم مؤجل منذ عام 2002

فرانسيسكا موسى

 

 

 

قبل أكثر من عشرين عامًا، أقرّ مجلس النواب اللبناني قانون الاتصالات الرقم 431، واضعًا إياه حجر أساس لإصلاح شامل في أحد أكثر القطاعات حيوية في البلاد. صدر القانون في تموز 2002 ضمن خطة تهدف إلى إعادة هيكلة قطاع الاتصالات وفتح الباب أمام الاستثمار والمنافسة، عبر إنهاء الاحتكار الحكومي وإنشاء هيئة ناظمة مستقلة، وتأسيس شركة وطنية تُدعى “ليبان تيليكوم” لتولّي تشغيل البنية التحتية العامة وإدارتها. لكن بعد مرور أكثر من عقدين، لم يُترجم هذا القانون إلى واقع فعلي، وبقيت غالبية بنوده معلّقة، وأبرزها تأسيس الشركة الوطنية المنتظرة.

 

 

 

أُعلن في حينه أن القانون يشكّل نقلة نوعية من الإدارة المركزية نحو الحوكمة الرشيدة، وأنه سيخلق بيئة مؤسساتية شفافة تخدم المواطن أولًا، وتشجع على دخول القطاع الخاص بقوة. لكن الوقائع أثبتت أن هذه الوعود لم تُنفذ لا “ليبان تيليكوم” أُنشئت ولا الهيئة الناظمة مُنحت الصلاحيات الفعلية التي يضمنها لها القانون. بدلاً من تطبيق النصوص، استمرّت الدولة في إدارة القطاع عبر شركتي”ألفا” و”أم. تي. سي. تاتش”  من خلال عقود موقتة يتم تجديدها بشكل روتيني، من دون مناقصات أو فتح باب المنافسة، وبعيدًا من أي  رقابة فعلية.  منذ تأسيس الهيئة الناظمة، وُضعت في موقع شكلي غير فاعل، وأُفرغت من مضمونها عبر سحب الصلاحيات منها وتحويل القرار الفعلي إلى وزارة الاتصالات، وهو ما جعل من استقلاليتها نظرية لا أكثر، وكرّس هيمنة السلطة التنفيذية على مفاصل هذا القطاع. أما شركة “ليبان تيليكوم”  التي كان يُفترض أن تُدمج فيها مهمامتأوجيرو ومديرية الإنشاءات والاتصالات، فبقيت مشروعًا مؤجلًا لا يتقدّم خطوة. هذا التعطيل له أثمان باهظة على الاقتصاد اللبناني. فمع غياب المنافسة، تراجعت جودة الخدمات وارتفعت أسعار الاتصالات مقارنة بدول المنطقة، وازداد ضعف البنية التحتية التي باتت قديمة وغير قادرة على مواكبة متطلبات العصر الرقمي. في المقابل، تسعى دول أخرى إلى تحديث منظومتها الاتصالية والاستثمار في الابتكار والرقمنة، بينما يبقى لبنان غارقًا في الجمود الإداري والتقني، مع انعدام الرؤية الاستراتيجية. التساؤل اليوم لم يعد حول ضرورة تطبيق القانون فحسب، بل حول مدى صلاحية هذا القانون أساسًا بعد كل هذا الزمن. فالقانون وُضع قبل الطفرة الرقمية الكبرى، قبل الإنترنت الفائق السرعة، والجيل الخامس، والحوسبة السحابية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وغيرها من الابتكارات التي غيّرت وجه القطاع عالميًا. لذا، يرى البعض أن القانون بات بحاجة إلى مراجعة شاملة، أو حتى صياغة بديل يتناسب مع الواقع الجديد. في المقابل، لا يزال آخرون يؤمنون بأن القانون يحتوي على بنية إصلاحية متينة، تكفي لتحديث القطاع لو تمّ تطبيقه بحذافيره، خصوصًا أن مواده تنص بوضوح على أسس الحوكمة، والفصل بين الإدارة والتنظيم، وتكريس استقلالية الجهات الرقابية. لكن أياً يكن الرأي التقني، فإن جوهر المشكلة يبقى سياسيًا. فتعطيل القانون لا يعود إلى نقص الكفاءة أو القدرات، بل إلى غياب الإرادة السياسية والتنازع على الصلاحيات والموارد. في بلد يتداخل فيه النفوذ السياسي مع المصالح الاقتصادية، يصبح قطاع الاتصالات ساحة صراع لا أداة تنمية، وهذا ما يجعل أي إصلاح حقيقي يتطلب قرارًا سياسيًا شجاعًا يفصل بين الوظيفة العامة والسلطة الخاصة، ويمنح المؤسسات القدرة على العمل بحرية واستقلالية.
 أمام هذا الواقع، تبدو الحاجة ملحّة إلى إعادة فتح ملف القانون  431 ليس من أجل تفعيله فحسب، بل أيضًا لتقييم جدواه وتعديله إذا لزم الأمر.  فلا يمكن للبنان أن ينهض اقتصاديًا من دون قطاع اتصالات عصري، شفاف، قادر على استقطاب الاستثمارات وتقديم خدمات بجودة عالية وأسعار عادلة. إن الاتصالات لم تعد خدمة ثانوية، بل أصبحت البنية الأساسية لأي اقتصاد حديث، من التعليم إلى الصحة، ومن التجارة إلى الإعلام، وبالتالي فإن إصلاح هذا القطاع هو المدخل الطبيعي لأي نهضة اقتصادية في البلاد.
إن استعادة الثقة بالقانون تبدأ باحترامه وتطبيقه. أما تركه معلّقًا، فهو رسالة واضحة بأن الدولة لا تزال عاجزة عن الإصلاح. وبينما تتآكل البنية التحتية وتضعف الثقة العامة، يبقى التحدي الأكبر هو هل تملك السلطة القدرة السياسية على تفعيل هذا القانون، أم أن الوقت قد حان لوضع قانون جديد 
يُخرج لبنان من دوامة التعطيل إلى مسار التحديث؟