نحن نتقدم نحو اكتمال مسيرة التاريخ البشري

نحن نتقدم نحو اكتمال مسيرة التاريخ البشري

الاب ايلي قنبر 

 

 

 

1.”أُجرَةَ ٱلخَطيئَةِ مَوتٌ”
يتسَاءَل بعض الناس لِمَ لا يتِمّ فرز الأشرار عن الأخيار ليَرتاح عالم البشَر؟ ذلك أنّ القَباحات واللَّعنات السائدة تُحِيل كَوكب الأرض جَحيمًا لا يُطاق، يَنهش المُعتَلّين نَفسِيًّا  قبل سِواهُم ويَنشر اليأس بين ظَهرانيهِم. 
ما نَحياه في مَجتَمعاتنا كافّة يَختلط فيه القمح والزؤان .. والخير والشرّ يتَجاوَران في حياة الإنسان. لِذا، حين واجه تلاميذ يسوع هذا الواقع، رأوا فرز الزؤان عن القمح؛ أمّا هو فقال: : “”دعُوهما يَنميان كِلاهُما معًا. لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ” (متّى 13: 29) ذلك أنّ نبات الزوان في مراحل نمُوِّه الأولى يُشبه نبات الحِنطة، كما أنّ جُذور هذا تتَشابك مع جُذور ذلك. وقد فسَّر يسوع المثَل: “اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ” (مت 13 ” 37، 38). فكيف علينا التعاطي مع تلك الوَضعيّة؟ 

تعبيرية (مواقع تواصل)

 

 

رسول الأُمم يدعونا ألَّا نُخَالِطُـ وَلاَ نُؤَاكِلُ مِثْلَ هذَا الـ”مَدْعُوُّ أَخًا زَانِيًا أَوْ طَمَّاعًا أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّامًا أَوْ سِكِّيرًا أَوْ خَاطِفًا”(1 قورنتُس 5: 11) مخافة أن تنتقل عَدواه إلينا، وهوَ مُحِقٌّ إلى حدّ. في حين يرى القديس أوغسطينوس أن “كثيرين يكونون في البداية زوانًا، لكنّهم يصيرون بعد ذلك حنطة. فإن لم نَحتمِلهم بالصبر وهُم خُطاة لَما يُمكن بُلوغهم إلى هذا التَحوُّل المُستحِقّ لكلِّ تقدير”. 
نعم، علينا نحن الأبرار ألَّا نُبدّد طاقاتنا وأوقاتنا في إدانة الأشرار، بل أن نمنح كلّ إنسان فُرصتَه بالكامل، عالمين أنَّ اللَّه لا يَسعى لِإبادة المُعاندين المُتكَبِّرين:”وَأَمّا مَوهِبَةُ ٱللهِ، فَحَياةٌ أَبَدِيَّةٌ في ٱلمَسيحِ يَسوعَ رَبِّنا” (روما 6: 23). مفهوم؟!

2. “إِنَّ كَثيرينَ يَأتونَ مِنَ ٱلمَشارِقِ وَٱلمَغارِبِ”
نعرف أنّ الناصريّ بدأ رسالته التحريريّة من “بِلادُ الْجَلِيلِ[  هي المنطقة نفسها التي تنطلق منها الحملات الهمَجيّة على بلدان الشرق اليوم لإعادة الشعب إلى الجلوس في الظلمة (متّى 4: 16).] الَّتِي يَسْكُنُهَا الأَجَانِبُ”(متّى 4: 15)، لأنّه يُحبّ “كلّ إنسان، وكلّ الإنسان”: من هنا دُنُوّ قائِدُ مِئَةٍ رومانيّ إليه وَسؤاله قائِلاً:”يا سَيِّدي، إِنَّ غُلامي مُلقًى في ٱلبَيتِ مُقعَدًا يُعَذَّبُ بِعَذابٍ شَديد”. فَقالَ لَهُ يَسوع:”أَنا آتي وَأَشفيه”(متّى 8: 5-6). فأردَف القائد:”يا سيِّدي، لستُ اهلًا أن تدخل تحت سَقفي!      ولكِن قُلْ كلمةً لا غَير، فيَبرأَ غُلامي”.
في الخطِّ عَينِه، عاد المجمع الڤاتيكانيّ الثاني[  فرح ورجاء (Gaudium et Spes)، دستور عقائديّ “الكنيسة في عالم اليوم”، العدد 4.] وأكَّد في ستّينيّات القرن العشرين: “الكلمة”[  يوحنّا 1: 1.] هوَ “النقطة التي تلتقي فيها رغبات التاريخ والحضارة، وهو نقطة ارتكاز الجنس البشري[  “إِنَّ كَثيرينَ يَأتونَ مِنَ ٱلمَشارِقِ وَٱلمَغارِبِ وَيَتَّكِئونَ مَعَ إِبرَهيمَ وَإِسحَقَ وَيَعقوبَ في مَلَكوتِ ٱلسَّماواتِ، وَأَمّا بَنو ٱلمَلَكوتِ فَيُلقَونَ في ٱلظُّلمَةِ ٱلبَرّانِيَّة” (متّى 8: 11).]، وهو فرحُ جميع ِالقلوب لأنه يقود تَوقِها إلى الكمال” كَونه “هو غاية التاريخ الإنسانيّ”[  لقد قال الرّب يسوع بنفسه: … أَنا الأَلِفُ والياء، والأَوَّلُ والآخِر، والبِدايَةُ والنِّهايَة”. (رؤ 22: 13)، (أفَسُس 1: 9-10).]. وهذا  هو”كلَّ الخير الذي يستطيع أن (يُوَفِّره) شعب الله أثناء حجّه على هذه الأرض للعائلة البشرية”. إذ “نحن الذين أحياناً وجمعنا بروحه، إنَّما نسير نحوَ كمال التاريخ الإنسانيّ، الذي يتَناسب تمامًا ومُخطَّطه المَجبول بالحُبّ”[  فرح ورجاء(Gaudium et Spes)، دستور عقائديّ “الكنيسة في عالم اليوم”، العدد 45.].
في متّى 8: 5-13 نَقرأ كيف تقدَّم رجُلٌ رومانيّ عسكريّ من يسوع طالبًا الشفاء لـ”غُلامه”، مُظهِرًا  فَيضَ حبِّه لخادمه الضعيف والمتالِّم. هذا الحبّ الذي يُشكِّل القاسَم المشترَك بين يسوع “حامِل عاهاتنا وآلامنا”(إشَعيَا 53: 4) وبَينه. لقد تقدّم قائد المئة بإيمان  وتواضع من يسوع، وبرجاءِ حصول خادمه على نعمة الشفاء “من عذابه الشديد”. كَم كان قلب القائد مملُوءًا حُبًّا وتعاطُفًا بالرغم من تنشئته العسكريّة والطبَقيّة! وبالرغم من عِلمه بمَدى كُره اليهود له كمُستَعمِرٍ ومُحتَلٍّ، تلَمَّس سلامَ يسوع الساطع في علائقه، واقترب منه كصانِع سلام(متّى 5: 9). تحرَّك القائد الرومانيّ نحو يسوع مُزَخَّرًا بالرجاء كفضيلة، صارخًا:  ” قُلْ كلمةً لا غَير، فيَبرأَ غُلامي”. عرَف الرجُل حدَّه وفهِم أنّ كلمةَ يسوع قادرة أن تُؤتي فِعلها عن بُعد لِما لها من سُلطان وقوّة وهَيبَة. لعِلمه بِتأثير الكلمات ، أكان على مستوى الإغراءً أو الترغيبً أو الترهيب. كان مُدرِكًا أيضًا أنّ الصمتَ الكامِن في الكلمة، كلمة يسوع تحديدًا، قادِرٌ أن يشقَّ طريقه في القلوب. لَكأنّه لمَس قدرة كلمته “الإلَهيّة” الخلاّقة والعابرة للمسافات، و”نقطة ارتكاز الجنس البشري[  “إِنَّ كَثيرينَ يَأتونَ مِنَ ٱلمَشارِقِ وَٱلمَغارِبِ وَيَتَّكِئونَ مَعَ إِبرَهيمَ وَإِسحَقَ وَيَعقوبَ في مَلَكوتِ ٱلسَّماواتِ، وَأَمّا بَنو ٱلمَلَكوتِ فَيُلقَونَ في ٱلظُّلمَةِ ٱلبَرّانِيَّة” (متّى 8: 11).]، و فرحُ جميع ِالقلوب”. لَكأنّ قائد المئة فهِم “أنّ كلّ يوم لا تتُوب فيه (أي تتَحسّن وتتَقدّم) لا تحسبه من أيّام حياتك”، على حَدِّ تعبير القدِّيس إسحَق السُريانيّ.
أمّا نحن، فكيف نَقرأ؟ وهل بمَقدورنا تخطّي العُنصريّة والحِقد والعُنف والعَداء في نظرتنا وفي ممارساتنا لنَشُقّ طريقنا نحوَ السلام، فنَصنعُه ونستحقّ الطُّوبى(متّى 6: 9). مُمَهِّدين الطريق إلى “الحياة بوَفرة”(يوحنّا 10: 10) للجميع؟