إصلاح النظام القضائي: خطوة ضرورية لاستعادة الثقة المهدورة

سيريل سلوم
منذ أن أبصرت الجمهورية الثانية النور بعد توقيع اتفاق الطائف عام 1989 بقيت السلطة القضائية رهينة الأوضاع السياسية وموازين القوى العسكرية المتمثلة بالسلاح خارج إطار الدولة والشرعية وصولاً إلى الاصتطافات الطائفية والمصالح الفئوية والشخصية.
خلال القرون الثلاثة الماضية فقد لبنان مبدأ فصل السلطات نتيجة التدخل غير المألوف بين السلطتين التنفيذية والتشريعية الذي طمس الحدود بينهما، ولكن الأزمة الكبرى بالنظام السياسي متجسدة بعدم استقلال القضاء عن السلطة السياسية التي أخذت تعتبر القضاء أنه مجرد فرع من فروعها، فلا تتردد هذه السلطة أن ممارسة أقصى ضغوطاتها على القضاة أو من خلال تمرير رسائل سياسية عند دراسة التشكيلات القضائية أو تعطيلها.
تعبيرية (مواقع تواصل)
منذ بداية التسعينيات عصفت بلبنان عدة أزمات على أصعدة مختلفة فلم يحاكم أحد أو يسجن أحد ليس انتقاماً بل إحقاقاً للحق واحتراماً للقانون وللمواطنين، كما ومنذ ذاك الفترة كانت الأراضي اللبنانية ساحةً للتصفيات السياسية من خلال عمليات الاغتيال السياسية التي أدت إلى استشهاد أبرز الرموز الوطنية كالرئيس رفيق الحريري عام 2005 والصحافي البارز جبران تويني في العام نفسه ووزير الصناعة بيير أمين الجميل عام 2006 والنقيب في القوى الأمن الداخلي وسام عيد عام 2008 ويضاف إلى هذه الأسماء قافلة من الشهداء وصولاً إلى جريمة العصر في الرابع من آب عام 2020 مع انفجار مرفأ بيروت الذي ذهب ضحيته أكثر من 218 شخصاً وبات نتيجته 300 ألف شخص بلا مأوى نتيجة تخزين 2750 طنًاً من نيترات الأمونيوم بظروفٍ غير ملائمة منذ العام 2014 من دون أن يعرف من أدخلها إلى المرفأ وكيف خزنت ولماذا بقيت طيلة هذه السنوات.
وحتى أيامنا لم تعرف هوية المرتكب لأي جريمة أو عملية اغتيال نتيجية غياب القضاء أو الأصح قولاً نتيجة تغييبه وترهيبه، ربما المتورط الأساسي قد بات معروفاً من خلال الوقائع السياسية والمعلومات الصحافية ولكن يبقى القرار القضائي الرسمي غائباً.
المسؤؤلون والمتهمون كثر ولكنهم يتخطون القوانين والقضاء بواسطة أدوات ومناورات سياسية أبرزها الامتناع عن حضور جلسات الاستماع لأقوالهم أو من خلال تحريض الجماهير على القضاء والقضاة، ما يكرّس ثقافة الإفلات من العقاب فيفقد المواطنون الثقة بالسلطة القضائية التي لم تعد قادرة على أداء دورها كسلطة رقابية فعلية.
ولكن من الواضح أن الإدارة اللبنانية السياسية الجديدة تدرك تماماً أهمية ودور القضاء في إرساء الثقة والطمأنينة لدى اللبنانيين والمجتمع الدولي. فعند أداء خطاب القسم شدّد الرئيس جوزاف عون على أهمية القضاء متعهداً بصيانته وتأمين “الأجواء” اللازمة له لكي يتحرر من التبعية السياسية ويستطيع معها من ممارسة دوره بشكلٍ مستقل وفعال، وهذا من أول تعهداته للبنانيين خلال خطابه الأول: “عهدي أن أعمل مع الحكومة المقبلة على إقرار قانون جديد لاستقلالية القضاء بشقه الإداري والعدلي والمالي وتطوير عمل النيابات العامة… بما يضمن الحريات والحقوق ويشجع الاستثمارات ويكافح الفساد”. علماً أن الرئيس قد لاقى دعماً وتصفيقاً حاراً في حرم مجلس النواب عندما عرض رؤيته ومشاريعه في الشق المتعلق بالسلطة القضائية وتعزيز فلسفة احترام القوانين.
كما وأكّد البيان الوزاري لحكومة “الإصلاح والانقاذ” برئاسة نواف سلام على وجوب العمل نحو استقلالية القضاء: “ونريد دولةً تؤمّن العدالة للجميع… ولذلك، يترتب على نظام العدالة ان يحظى بثقة اللبنانيّين واللبنانيات الكاملة، وهو ما يقتضي ترسيخ استقلال القضاء، وتحسين أوضاعه وإصلاحه…”
و سرعان ما نالت الحكومة الثقة، حيث تم إقرار قانون استقلالية القضاء في مجلس الوزراء في الثالث من أيار 2025 تحت تسمية “تنظيم القضاء العدلي” الذي يعتبر خطوة إيجابية نحو تحقيق استقلالية تامة للقضاء عن السلطة السياسية. كما وأن زخم العهد بدأ ينعكس بشكل إيجابي على عمل القضاء مع محاكمة وتوقيف وزير الاقتصاد السابق أمين سلام وشقيقه بتهم فساد، اختلاس وهدر المال العام وذلك بإشارة من النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار. كما وأن من المتوقع بحسب عدة مصادر قضائية وصحافية صدور القرار الظني في قضية انفجار المرفأ قبل الرابع من آب الجاري من قبل المحقق العدلي طارق البيطار بعد تعطيل دام لمدة ثلاث سنوات.
في الخلاصة، قد لا تكون استقلالية القضاء من الصفات المسماة السلطة الرابعة التي يجب لبقعة جغرافية يسكنها المرء توفيرها لقيام دولة فعلية وفعالة. إلاّ أن هذا الشرط لا يقل أهمية، فاستقلالية القضاء وسلطة قضائية قوية شرطان أساسيان لبناء دولة فعلية تصون الحقوق، تحمي الحريات وتطبق القوانين بحيث إن لا ميزة لمواطن على آخر أو امتياز بين مواطن وآخر، فالعدل أساس الملك.