التوثيق في عصر الذكاء الاصطناعي: حينما تتحول الحقيقة إلى احتمال غير محدد

مع كل نقلة تكنولوجية كبرى، تجد الفنون البصرية نفسها أمام أسئلة جديدة عن المعنى، والغاية، والأصالة. وفي قلب هذه المتغيرات يقف الفيلم الوثائقي اليوم في مواجهة غير مسبوقة: هل لا يزال حارسًا للواقع، أم أنه دخل عصر “الحقائق المصنّعة”؟
الذكاء الاصطناعي التوليدي، خصوصاً تقنية “التزييف العميق”، يفتح المجال أمام إمكانيات هائلة في السرد، لكنه يطرح أيضاً إشكالات أخلاقية وفلسفية حول حدود الحقيقة. وللخوض في هذا التداخل المعقّد بين الذكاء الاصطناعي والوثائقي، كان لـ”النهار” هذا الحوار المعمق مع خلدون شامي، أستاذ الفيلم الوثائقي في جامعة إيست أنجليا البريطانية، الذي يقدّم قراءة نقدية جريئة تضعنا أمام تحديات جمالية ومعرفية متشابكة.
خلال مقابلته مع “النهار”، تحدث شامي عن عدد من القضايا التي تضع الوثائقي المعاصر أمام اختبار حقيقي:
الفيلم الوثائقي والذكاء الاصطناعي التوليدي-التزييف العميق!
يرى خلدون شامي أن الذكاء الاصطناعي التوليدي يتيح فرصة لإعادة صياغة “تاريخ افتراضي”، لخلق مساحة غامضة بين الواقع والخيال، بل للتشكيك في حدود ما نتعامل معه باعتباره الواقع. أبعد من ذلك، يجد صناع أفلام أن تقنية التزييف العميق (Deepfakes AI) هي طريقة لتقديم شكل من “الحقيقة”، أو على الأقل تقريبها لتصبح في متناول الجميع. فـ”التلاعب” ليس ممارسة محدثة أو مدانة في إطار صناعة الوثائقي.
في وثائقي كارثة القمر 2020 (In Event of Moon Disaster)، يظهر الرئيس نيكسون في خطاب للمواطنيين الأميركيين عقب كارثة تحطم المكوك الفضائي أبولو 11، ناعياً رائد الفضاء آرمسترونغ ورفاقه ومشيدًا بشجاعتهم في رحلتهم إلى القمر عام 1969. “عزيزي أنت تشاهد شيئاً غير حقيقي”، هذه العبارة تظهر في بداية “الوثائقي” القصير ليوثّق لحظة تاريخية “محتملة” لا حدثاً تاريخياً.
قامت فرانشيسكا بانيتا (Francesca Panetta) وهالسي بورجوند (Halsey Burgund) بوساطة الذكاء الاصطناعي بتحويل “وثيقة سافير” (Safire Memo) —النص البديل للخطاب— إلى فيلم يوثّق ما كان من المفترض أن يُقال لو فشلت مهمة أبولو 11؛ وهو خطاب لم يُلقِه نيكسون مطلقاً.
بعد مشاهدة الفيلم ونيكسون يقرأ خطاب سافير، قد تقول: ربما ألقاه! ربما انفجر أبولو 11 ولم يخطُ آرمسترونغ على القمر أصلًا! إنه الذكاء الاصطناعي الذي سمح لتقنية التزييف العميق بتوسيع التمثيل السمعي والبصري للأحداث، وبتذويب الفاصل بين الخداع و”الحقيقة”.
استلزم إنتاج الفيلم عمليتين للذكاء الاصطناعي: الأولى لاستنساخ صوت نيكسون، والثانية لتوليد فيديو مفبرك مستند إلى لقطات أرشيفية حقيقية من إطلاق أبولو 11. النتيجة: معالجة سمعية-بصرية لأوراق أرشيفية تحوّلت إلى سردية بديلة للتاريخ. (وينصح شامي بزيارة الموقع التفاعلي للفيلم: https://moondisaster.org).
يضيف شامي: هناك إمكانات كبيرة لتحسين الأفلام الوثائقية بوساطة الذكاء الاصطناعي، لكن التأثير الأكثر أهمية لتقنية التزييف العميق هو في تقديم الروايات المهمشة التي يتم تجاهلها أو التي لم تُسجّل، مثل فيلم Welcome to Chechnya (David France, 2020)، الذي استخدم التزييف لحماية هويات أفراد مجتمع الميم في روسيا، من خلال تغيير وجوههم وأصواتهم بدلاً من تمويهها، كما أن فيلم Another Body (Sophie Compton, 2023) استخدم التقنية ذاتها لإخفاء ضحية إباحية رقمية.
ويتابع شامي: هناك إقبال كبير على استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي. لكن مقاربة هذه التقنية مع بعض المذاهب الوثائقية كـ “الوثائقي الإثنوغرافي”، الذي ينطلق من منهجية أنثروبولوجية، تبدو مقاربة خارج السياق والمعنى. وتوريط جميع أنواع الإنتاج الوثائقي في هذه التقنية هو ممارسة شمولية.
ويرى أن هناك فرصة لصنّاع الأفلام للالتفاف على مشكلات التمويل والوقت عبر التزييف العميق، لكنه يشدّد على ضرورة وضع حد فاصل بين “الوثائقي الاصطناعي” كنوع إنتاجي جديد وبين الأنواع الأخرى، من دون فرضه على المذاهب الوثائقية ذات الهوية الصلبة.
عن المصداقية وإعادة تعريف الواقع
وحول سؤالنا عن العلاقة بين الوثائقي والواقع، وما إذا كان الذكاء الاصطناعي يشكّل تهديداً للمصداقية، يوضح شامي بأن التزييف العميق -إن كان تضليلًا- فهو تضليل معاصر فقط.
في المقابل، يذكّر بأن المونتاج، ترتيب اللقطات، وتحرير المقابلات، كلها أدوات تُستخدم للوصول إلى رواية متماسكة، ولا تختلف كثيرًا من حيث المبدأ.
ويضيف: “دعنا نتذكر كيف كان الفوتوشوب يُعد ممارسة إشكالية. اليوم لم يعد كذلك. وبالمنطق ذاته، فإن فيلمًا مزيفًا كـ”كارثة القمر” يحصل على جوائز مرموقة مثل IDFA وEmmy في فئة الوثائقي”.
ويؤكد أن استخدام التزييف العميق ليس غريبًا في الممارسة الوثائقية، بل يُبرَّر كوسيلة لتحقيق سرديات أقوى. فالذكاء الاصطناعي التوليدي هو أداة إنتاج للمعاني، وليس مجرد حيلة بصرية. والوثائقي، في نهاية المطاف، هو موقف ذاتي، وإعادة توليد للسلطة من خلال الخطاب.
ويقول شامي: “المصداقية، والموضوعية، وعدم التحيّز… كلها مفاهيم تنتمي إلى الثقافة المهيمنة التي أضفت عليها طابعًا أخلاقيًا. لكنها، في الحقيقة، أدوات سلطوية”.
ويخلص إلى أن الحل يكمن في الشفافية: “ما دام هناك افتراض أن الوثائقي يمثل الحقيقة، فيجب على صانع الفيلم أن يخبر الجمهور عندما يستخدم محتوى اصطناعيًا. حينها يصبح الخداع مقبولًا، بل ومسلياً، تماماً مثل عرض سحري يعرف الجمهور مسبقاً أنه غير حقيقي”.
تجربة شخصية: الذكاء الاصطناعي لا يفهم التعقيد
وعن استخدامه الشخصي للتقنيات الحديثة، يكشف شامي أنه طلب من ذكاء اصطناعي توليد فيديو ترويجي لفيلمه عَالَمَاني (Secular | Aa’La’Ma’Ni 2024) بعد انتهاء المونتاج. النتيجة؟ “كوميدية، استعلائية، واستعمارية”، حسب وصفه.
الفيلم مبني على مقابلات إثنوغرافية مع صناع أفلام من الشرق الأوسط، ويدرس موقع العلمانية في حياتهم الشخصية والإبداعية. ويشرح شامي:
“كممارس إثنوغرافي، أذهب إلى المقابلة كغريب، مستعد لإعادة النظر في افتراضاتي، متخليًا عن سلطة الخطاب، من أجل إنتاج سرد معقّد ومتعدد الطبقات. الذكاء الاصطناعي لا يفهم هذا”.
ويحذّر من أن هذه التقنيات تستمد محتواها من بيانات الإنترنت المتحيزة للسرديات الغربية، وهي بذلك تعجز عن تمثيل واقع الجنوب العالمي أو التناقضات اليومية التي تعيشها مجتمعاته.
“لن تستطيع أي خوارزمية أن تفهم تسجيلًا بصوت نساء في سجن صنعاني، يغنين عفويًا بإيحاءات لا يمكن ترجمتها رقمياً”، يقول شامي.
في التعليم: الذكاء الاصطناعي كفرصة نقدية
ويختم شامي حديثه بالتأكيد على أن الذكاء الاصطناعي يمنح فرصًا تعليمية غير مسبوقة في المجال الأكاديمي، سواء في الدراسات السيميائية، أو تقنيات السرد، أو بحوث ما بعد الكولونيالية.
في رأيه، يجب أن تكون الجامعات في مقدّمة التجريب، من دون خوف أو تحفظ، شريطة أن تُبقي على حضور المذاهب الوثائقية ذات الهوية المتماسكة، خاصة الإثنوغرافية، لأنها لا تزال تمثّل صوتًا إنسانيًا في وجه الخوارزميات المتسارعة.