الحزب في المرحلة النهائية من المفاوضات

بصرف النظر عن جدل متصاعد في سائر الأنحاء السياسية والطائفية اللبنانية حول الحدود الدنيا والقصوى التي يمكن لبنان أو لا يمكنه، كدولة طبعاً، التقيد أو التوسع بها لاستجابة ما سميت ورقة توماس براك، الموفد الأميركي “المتعدد الأبعاد”، بات في حكم المؤكد أن براك بعد زيارة واحدة لبيروت أخضع أركان الدولة والقوى السياسية قاطبة للاختبار الأشد عمقاً للقدرة على اجتياز المرحلة الفاصلة عن ترسيخ أحادية الدولة بلا منازع.
ولعل ما واكب “العصف الفكري” القاسي والمجهد الذي اضطر أركان السلطة الثلاثة، أي رؤساء الجمهورية والبرلمان والحكومة، إلى خوضه في الأسبوعين الأخيرين، عبر لجنة تجمع مستشارين لكل منهم، بدأ غريباً إلى أقصى الحدود لأنه تم ويستكمل وسط كتمان المقار الثلاثة أساساً من دون ضجيج إعلامي، بما عكس تهيّب المهمة قبل عودة براك في زيارة ثانية فاصلة وحاسمة.
مرت أيام بعد زيارة الموفد ذي الجذور اللبنانية من دون أن يكشف أي من أركان السلطة أنه أودعهم “ورقة” الامتحان الحاسم، لبرمجة بنود مفصلية سيادية وإصلاحية تتشعب بين نزع متدحرج ضمن مهلة زمنية قصيرة لسلاح “حزب الله” وترسيم الحدود اللبنانية – الإسرائيلية كما الحدود اللبنانية – السورية وصولاً إلى الجانب الإصلاحي وإعادة الإعمار.
ومع انكشاف الأمر، كانت ثمة لجنة مستشارين تعقد جلسات ماراتونية يومية لإنجاز التصور اللبناني، للرد على الورقة الأميركية التي قد تدخل بدورها تاريخاً مليئاً بوثائق الوساطات الغربية والعربية والدولية التي مرت في أرشيف تاريخ الحروب والأزمات التي تناوبت على لبنان الحديث والقديم. وإذ يشكل تاريخ الموفدين والوسطاء مادة شيقة أساسية من مواد استلهام المقارنات والمقاربات للوساطات أقله منذ دين براون، الذي التصق اسمه كأشهر الموفدين الأميركيين في زمن اندلاع الحرب في لبنان عام 1957، لا تسمح اللحظة الراهنة الآن بهذا الترف قبل جلاء مبكر لغبار الغموض الخطر والحساس والشديد الإثارة للقلق الذي يغلف مهمة توماس براك والرد اللبناني الرسمي عليها. ذلك أنه في مفارقة ولا أغرب، تجري تقريباً استعادة نمطين تفاوضيين بين الموفد الأميركي الحالي وأركان السلطة اللبنانية، أسوة بما حصل في تجربة ترسيم الحدود البحرية اللبنانية – الإسرائيلية أولاً، ومن بعدها في تجربة وضع اتفاق وقف الأعمال العدائية بين لبنان وإسرائيل في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. في التجربتين المشار إليهما كانت “أميركا” تفاوض “حزب الله ” بالواسطة لانتزاع موافقته عبر شريكه الشيعي نبيه بري ورموز الحكومة والدولة القائمتين، وفي التجربة الحالية أيضاً، وعلى رغم الضربات الوجودية الهائلة التي تلقاها الحزب في حربه الأخيرة مع إسرائيل، لا تزال القناة التفاوضية الوسيطة هي هي لانتزاع موافقة الحزب على نزع بقايا ترسانته.
وفي انتظار كشف مضمون الورقة – الرد – وإنجاز التصور اللبناني وتبين السقوف القصية السيادية فيه، ومكان وقوة وسطوة وأولوية الدولة وأحادية سلطتها فعلاً، فإن كل ذلك لن يحجب حقيقة أن “حزب الله” لا يزال يتمتع ربما بآخر الفرص المتاحة للتفاوض حول آخر مواقع أو أوراق المرحلة التي تتيح له الانخراط سلماً في تصفية ذيول الحرب، قبل أن “ينفجر” شيء ما سلماً أو حرباً فيما لو ذهب الحزب في رعونة ترجمة ما يطلقه من رفض لتسليم الدولة اللبنانية سلاحه.
ولن يكون من المغالاة أن يخشى كثر عدم تقدير الحزب معنى أن يترك له “امتياز” الفرصة الأخيرة، بأن يكون مفتاحاً مقرراً بالواسطة أو ضمناً في مفاوضات أميركا والدولة اللبنانية!