نداء مُنقذ من غزة: في ذهني معركة لا يلاحظها أحد

نداء مُنقذ من غزة: في ذهني معركة لا يلاحظها أحد

“كل ما أتمناه هو أن أنام. ينظر الناس إلينا وكأننا محصّنون ضد الألم، وكأننا قادرون على تحمّل كل هذه الدماء والجثث والموت من دون أن ننكسر. لا أنكر أننا أقوياء، لكنّ وراء هذه القوة شيئاً لا يراه أحد. عندما تنتهي مناوبتي وأعود إلى المنزل، لا تتوقف المعركة في داخلي. في رأسي حرب لا يراها أحد، ولهذا السبب أتجنّب الوحدة. أسمع الأصوات: أنين الأطفال وبكاءهم… كلها تعود وتتعبني. لذلك، أشغل نفسي، أمشي، أفعل أي شيء للهروب. لكن عندما أغمض عيني أخيراً لأنام، تبدأ الكوابيس”.

بهذه الكلمات يبدأ عبد الله المجدلاوي (25 عاماً)، حديثه إلى “النهار”. يعمل عبد الله رجلَ إطفاء ومنقذاً ومسعفاً. في بداية المقابلة، ورد نداء استغاثة إثر استهداف في مدينة غزة، فغادر مسرعاً على أن يستكمل الحديث لاحقاً.

يقول عبد الله: “عندما قررت الانضمام إلى الدفاع المدني واجهت معارضة شديدة من والديّ، كوني ابنهما الوحيد، ولأن هذه المهنة محفوفة بالمخاطر وستجعلهم في قلق دائم عليّ. لكنني أصررت، لأسباب كثيرة، أولها أنها وظيفة إنسانية تتيح لي خدمة الناس ومساعدتهم”.

 

أوقات السلم وأوقات الحرب
يتابع عبد الله: “في أوقات السلم، كان من النادر أن نستدعى لمهمات إنقاذ، وعادةً ما كان ذلك يحدث إذا علق شخص داخل مصعد أو سقط في حفرة. حتى مهمات إطفاء الحرائق كانت قليلة نسبياً. أما في أوقات الحرب، فيحدث تغيّر جذري. بسبب القصف الكثيف والمستمر، يزداد عدد المهمات كثيراً، ويرتفع مستوى الخطر ارتفاعاً حاداً”.

رغم الدمار الشامل الذي تسببت به الحرب الإسرائيلية على غزة، وفي ظل ظروف قاسية واستهداف مباشر لطواقم الإنقاذ، يؤكد عبد الله: “نفّذنا عشرات آلاف المهمات منذ بداية الحرب، أي ما يعادل 30 عاماً من العمل في الظروف الطبيعية. وقد دُمّر 60% من معداتنا، واستُشهد 123 من زملائنا، وأصيب 331 آخرون، واعتُقل 21”.

ورغم ذلك كله، قررت المؤسسة الاستمرار في تقديم الخدمات، رغم فقدان الطواقم والمركبات والمراكز التي استُهدفت مباشرةً، وبينها طاقم كامل كان يستعد لمهمة في حي التفاح.

ويضيف: “شهدنا تصعيدات كثيرة منذ عام 2021، لكن بصراحة، لا يمكن وصف ما يجري حالياً بأنه حرب. ما يحدث هو إبادة جماعية. شهدنا ظلماً واضطهاداً لا يُصدق، وتحملنا جميع أشكال القسوة والمعاناة”.

 

عبدالله: أضطر للكذب على والداي.

 

“الحمد للّه… بخير”
ويقول عبد الله: “يتصل بي والداي كثيراً للاطمئنان، فأقول لهم: الحمد لله، بخير. لكن أحياناً أضطر للكذب عليهما. كانت هناك لحظات كنا فيها قريبين جداً من القصف، على بعد أمتار فقط. لا أخبرهم بكل شيء، لأنني لا أريد مضاعفة قلقهم. إيقاع هذه الحرب مختلف، قد يتصاعد فجأة، وقد يزداد القصف من دون سابق إنذار”.

ويروي أنه “في إحدى المهمات، خرج عشرة منا ولم يعد سوى تسعة. استُشهد زميلنا علي عمر. كثيراً ما نتساءل: من التالي؟”.

ويصف المُنقذ الفلسطيني المشهد قائلاً: “كان من أصعب اللحظات في حياتي المهنية. عملت وعلي منذ بداية الحرب، كنا ننتشل الشهداء، ندعم بعضنا البعض، ونكمل الجهد سوياً. لكنني وجدت نفسي مضطراً لانتشاله. كنت في حالة صدمة. هل هذا حقيقي؟ هل أنا واعٍ؟”.

ويتابع: “نظرت إلى علي، لكنني لم أستطع إنقاذه. كنا قد أنقذنا للتو امرأة شابة، وعندما استُهدفنا، أُصبنا. صعدت للطابق الثاني بحثاً عنه، فلم أجده. وجدت فقط كفه، تعرفت عليه من القفاز الذي نرتديه. بحثت عنه، لكن كل ما وجدته كان يده. نزلت إلى الطابق السفلي، وهناك أدركت أن الصاروخ قذفه من الطابق الثالث إلى الأرض”.

 

حرب لا يراها أحد
يقول عبد الله: “لن أتوقف عن العمل. بعد استشهاد علي، اجتمعنا كزملاء، وناقشنا ما إذا كنا أخطأنا، أم أننا استُهدفنا فقط لأننا ننقذ الناس. سألنا أنفسنا: هل يجب أن نتوقف؟ واتفقنا جميعاً على الاستمرار. حتى لو شكك أحدنا بنسبة 1%، فإن الباقين استمدوا القوة من هذه اللحظة”.

ويردف: “كلما شعرت بالخوف أو الإحباط، أذكّر نفسي: هناك شخص محاصر تحت الأنقاض يعتمد عليّ. إن لم أذهب، فسيموت، وسأفقده إلى الأبد”.

لا حصانة… لا معدات
“التحدي الأول والأكبر هو انعدام الحصانة والحماية. القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة واضحان في حماية طواقم الدفاع المدني والطواقم الطبية. مواقعنا، ومركباتنا، وأفرادنا معروفون جيداً لقوات الاحتلال، لكنهم يواصلون استهدافنا، في انتهاك صارخ لكل القوانين وتجاوز لجميع الخطوط الحمراء. فقدنا نسبة كبيرة من مركباتنا، ما تسبب في عجز حاد بالخدمات في أنحاء غزة. لدينا اليوم مركبة واحدة فقط تخدم منطقة واسعة”، يقول عبد الله.

ويضيف: “خلال مهمة أخيرة، تعطلت المركبة على بُعد 100 متر من الموقع. اضطررنا إلى حمل أدواتنا والمشي بقية الطريق. وعندما أردنا تشغيلها مجدداً، اضطررنا جميعاً إلى دفعها، لأن قطع الغيار غير متوافرة. نستخدم وقود الديزل المُصنّع محلياً، لأن سلطات الاحتلال تمنع إدخال الوقود إلى غزة، ما يتسبب في ضرر كبير للمركبات… لكنه كل ما نملك”.