من الطائرات من دون طيار إلى الصهاريج والمولدات… كيف يؤثر صخب بيروت على الصحة النفسية؟

من الطائرات من دون طيار إلى الصهاريج والمولدات… كيف يؤثر صخب بيروت على الصحة النفسية؟

بعد أن ابتلعت حبتي “بنادول” لأخفف من صداعي الناتج من تحليق مسيّرة غادرت سماء مدينة بيروت، ولكن ليس قبل أن تسلم الشعلة لصهريج مياه وفتية قليلي الذوق على دراجات نارية يملأون الشارع بحركاتهم البهلوانية وضجيجهم العالي… أقرّ وأعترف: “أنا أعلم!”.

 

أعلم أنها ضجة في غير محلها. ليست مشكلة صهاريج مياه بل مشكلة مياه. ليست مشكلة مولدات كهرباء بل مشكلة كهرباء. ليست مشكلة أبواق سيارات وقوانين سير بل قانون غير ساري المفعول على الأرض… وليست مشكلة مسيرات بل مشكلة ضجة في غير محلها.

 

تقول منال لـ “النهار”: “لاحظت، أخيراً، أنني عندما تظهر طائرة من دون طيار في السماء، يتغير سلوكي قليلاً، وأصبح أقل تفاعلاً وأكثر لامبالاة. لكن سلوكي الجسدي يعاني من تداعيات، مثل نوبات ذعر خفية تبدأ بالتسلل، مسببة ضيقاً في الصدر، وصعوبة في التنفس، وصداعاً، وصريراً في الأسنان، بالإضافة إلى قلق دائم، واضطرابات في وظائف الجسم مثل مشاكل الهضم”. 

 

وتضيف: “لذلك استخدم سماعات عزل الضوضاء لإلغاء الأصوات المزعجة والمخيفة التي لا تنتهي، ومع ذلك، يظهر في أحيان كثيرة أن عقلي يتخيل احتمالات وقوع هجوم وشيك، مما يفرض عليّ البقاء في حالة تأهب دائم، مع خطة طوارئ للهروب من المنزل”.

 

ولا تتردد منال في الاعتراف بأن أصوات المسيرات تذكرها دائماً بآلام الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان ومآسيها.

تعبيرية (انترنت)

 

لا يقتصر التلوث السمعي على صوت المسيرات فحسب، بل يمتد ليشمل ضجيج المولدات الكهربائية، وصهاريج المياه، وأبواق السيارات، والإزعاج المتعمّد من بعض سائقي الدراجات النارية. هذا ما تندّد به لوجين بحدة، قائلة: “في قريتي، يعتبر المراهقون الدراجة النارية لعبة، فيُعدّلونها لتُصدر أصواتاً صاخبة ثم يغرقون في الضحك. “أين الأهل من ذلك؟ نحن لسنا مضطرين الى تحمّل هذا الإزعاج اليومي المستمر”.

 

أما عايدة، فتعرب عن انزعاجها من عمل صهاريج المياه في ساعات الليل المتأخرة، رغم تفهّمها الأزمة الأساسية المتمثلة بانقطاع المياه. 

 

من جهته، يوضح أبو مصطفى، سائق صهريج مياه، قائلاً: “يومي مزدحم بالطلبات، وغالباً ما أتجاوز إرهاقي لتلبية حاجات الناس، حتى ليلاً. ومع ذلك، أذكر أن أحد السكان منعني مرة من متابعة عملي لأنه كان يخشى أن يستيقظ طفله من النوم”.

 

 

أي قوانين؟
عند التواصل مع رئيس دائرة السير برنارد أبي عكر، أوضح أن القانون اللبناني يحدد أوقات عمل الشاحنات، وهي لا تشمل ساعات الليل إطلاقاً، إلا في حالات استثنائية يُمنح فيها إذناً خاصاً من وزارة الداخلية، يسمح حينها فقط بتسيير الشاحنات خارج الدوام الرسمي.

 

أما بالنسبة الى صهاريج المياه، فأشار إلى أن التغاضي عن حركتها في أوقات متأخرة يعود إلى الطابع الضروري لخدمتها وحاجة المواطنين الملحة.

 


لا تتردد منال في الاعتراف بأن أصوات المسيرات تذكرها دائماً بآلام الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان ومآسيها

 

الجسم لا يميز بين الخطر الحقيقي والضوضاء المرتفعة
في حديثها الى “النهار”، توضح المعالجة النفسية هزار الزدجالي أن العيش في بيئات يعمّها الضجيج المزمن يضع الجهاز العصبي في حالة تأهّب مستمر (Hypervigilance)، وهو ما يؤدي تدريجاً إلى اضطرابات في النوم، تشوش في التركيز، تهيّج، قلق، نوبات غضب مفاجئة، وعند الاستمرار مدة طويلة… إنهاك عصبي واختلال في المزاج.

 

وتضيف أن هذا الإجهاد لا يتوقف عند الحدود النفسية فحسب، بل يمتد إلى الجسد عبر سلسلة من التفاعلات الفيزيولوجية الضارة، مثل الالتهابات، الإجهاد التأكسدي، وزيادة خطر الإصابة بأمراض القلب والسكري والسكتات الدماغية. أما عند الأطفال، فالتأثير قد يظهر في ضعف الإدراك والنمو العاطفي.

 

تشدد الزدجالي على أن الجسم لا يميز بين الخطر الحقيقي والضوضاء المرتفعة؛ فكل صوت عال ومتكرر قد يُفسَّر على أنه تهديد، فيُطلق الدماغ هرمونات التوتر كالكورتيزول والأدرينالين. وللتقليل من هذا التأهب الدائم، تنصح بخطوات بسيطة لبناء مساحات من الهدوء الداخلي: اعتماد روتين تهدئة يومي: جلسات تنفّس، تأمل، أو لحظات صمت بعيداً من الأجهزة، استخدام سمّاعات عزل أو موسيقى بيضاء لتحسين النوم والتركيز، قضاء وقت يومي قصير في الطبيعة، تفريغ التوتر عبر الحركة، التمارين، أو الكتابة، واللجوء إلى تمارين تنظيم الجهاز العصبي مثل “5-4-3-2-1 الحسي”.

 

رأي


اليد الخضراء: ما بين الطاقة والمقصّ!


ما هي أحاديث صالونات التجميل يا ترى؟

 

حين يتسلّل الضجيج إلى علاقاتنا ونومنا
من جهته، يشدّد الطبيب النفسي أدهم العدوي على أن الضجيج اليومي لا يمثّل مجرد إزعاج عابر، بل هو شكل خفي من الضغط النفسي المتراكم، يسرق من الإنسان طاقته وسكينته بشكل تدريجي.

 

ويشرح في حديث الى “النهار” أن أصوات المسيّرات، مولدات الكهرباء، صهاريج المياه، أبواق السيارات والدراجات… كلها تندرج تحت مظلّة “التلوّث الضوضائي”، الذي لا يُضعف الأعصاب فحسب، بل قد يؤثر على العلاقات الزوجية، يسبّب تقلبات مزاجية، صعوبة في النوم، توتراً مزمناً، ويؤدي في بعض الحالات إلى العزلة أو الاكتئاب.

 

ولتفادي هذا الاستنزاف النفسي، ينصح ببعض العادات اليومية البسيطة:
– التحدث عن الضيق وعدم كتمانه.
– أخذ استراحة قصيرة من المحيط أو الضوضاء عند الشعور بالاستفزاز.
– تجنّب الشاشات والهاتف عند الشعور بالصداع أو الانزعاج.
– تقليل الإضاءة والضوضاء قبل النوم بساعة على الأقل.
– شرب كوب من المياه عند التوتر: تأثيره أبعد مما تتخيل.

 

ويختم بالقول:
“ما تسكُت عنه كل يوم… سيعبّر عنه جسدك ونفسيتك لاحقاً، ولكن بصوت أعلى”.