الانسحابات المبكرة من الانتخابات | النهار

تتصاعد في العراق قرارات الأحزاب السياسية الانسحاب من خوض الانتخابات البرلمانية لسنة 2025، في حالة لافتة عما سبقها من الجولات الانتخابية التي اتسمت بالرغبة والاستعداد بهدف تحقيق تغيير في توازن الأحجام السياسية داخل السلطة التشريعية والتنفيذية، غير أن هذه الرغبة بدأت بالتراجع بعد تعديل قانون الانتخاب، مما أدى إلى إعلان “حركة وعي” في آذار/ مارس 2023، المقاطعة للانتخابات المحلية والبرلمانية، لاعتقادهم أنهم أمام “مرحلة جديدة من الهيمنة والاستحواذ تحت غطاء ديموقراطي”. ومع اقتراب الموعد الدستوري للانتخابات النيابية في تشرين الثاني/ نوفمبر المقبل، ازداد الانسحاب المبكر ليشمل التيار الصدري وائتلاف النصر وتيار الخط الوطني والبيت العراقي وحركة تصحيح وحزب توازن، بعدما كان المطلب إجراء انتخابات مبكرة ولم تنفذه حكومة محمد شياع السوداني.
إن مقاطعة بهذا العدد والثقل الأيدلوجي المتنوع والمساحة السياسية تعد رسالة سلبية حيال العملية الانتخابية، فالمبررات تبدو فاعلة لذهابهم الى هذا الخيار، إذ لم يعد الحديث يشمل سلامة الإجراءات الفنية للمفوضية العليا للانتخابات أو التشكيك باستقلاليتها كما كان سابقاً، بل أخذ يقتصر على استخدام المال السياسي لترغيب المرشحين للقوائم الحزبية وكسبهم وكذلك شراء أصوات الناخبين في تحد وتجاوز واضحين للقانون، وهذا ما أكد عليه تحالف رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي حين أشار إلى أنه “يرفض إشراك مرشحيه بانتخابات تقوم على المال السياسي، وتفتقد إلى الحزم بفرض الضوابط القانونية المانعة من التلاعب وشراء الأصوات، وتوظيف المال العام والمال الأجنبي، واستغلال موارد الدولة”، وهو ما يتفق عليه غالب القوى المنسحبة، مما يؤشر إلى غياب القدرة للمؤسسات المعنية على تحقيق العدالة الانتخابية وضبط نفاذ المال الداخلي والخارجي في آلية ديموقراطية يفترض أن تتصف بالنزاهة والشفافية، فضلاً عن أنها تعد تأسيسية لمعادلة سياسية تستمر أربع سنوات، لذا فإن هذا التشكيك سيعطي تصوراً كاملاً على فساد مبكر للانتخابات مما يعزز القناعة بعدم جدوى المشاركة ويدفع إلى عزوف أكبر للناخبين.
يمثل الاستغلال لمناصب الدولة ومواردها عاملاً محفزاً لقرار الانسحابات من السباق الانتخابي، إذ تستشعر القوى الناشئة أن التوظيف للمناصب المدنية العليا وحتى العسكرية والأمنية منها، من الحكومة والأحزاب والفصائل المسلحة التي تسيطر على الحكومة، سيكون ركناً أساساً من استقطاب غير عادل لأصوات الناخبين، خصوصاً أن المزاج بالعادة في العراق يتجه نحو الممسكين بالسلطة، ورغم التحذيرات من هذا المسار إلا أن لا جهة رادعة أو مراقبة للخروق المبكرة، رغم وجود أدلة مادية منتشرة في منصات التواصل الاجتماعي على مرشحين يقومون باحتكار الجهد لمؤسسات خدمية، أو من خلال استثناءات نشطت في خلال الشهر الماضي والتي سوف تتصاعد كلما اقترب الموعد للاقتراع النيابي…
على الأرجح، فإن التداعيات التي تمر بها المنطقة والبدء بترجمة فكرة الشرق الأوسط الجديد، أحد أهم الأسباب العميقة للانسحابات المبكرة، خصوصاً بعد الحرب الإسرئيلية ـ الإيرانية وانعكاساتها على النظام السياسي في العراق، إذ تعتقد أطراف مقاطعة أن النأي الانتخابي في هذا الوقت سيجعلها بمأمن عن أي تطورات داخلية يمكن أن تعيد توزيع القوى السياسية، فضلاً عن أنها لا تريد أن تكون متحالفة مع الأجنحة السياسية للميليشيات والتي قد تستهدف عسكرياً أو سياسياً من واشنطن وتل أبيب في لحظة ما.
في ضوء ما تقدم، لا يمكن القبول بفرضية أن قرار الانسحاب من الانتخابات كان بسبب ضعف القاعدة الجماهيرية للأحزاب المقاطعة، ولا يمكن أن يكون لحظة مشاكسة أو ترف سياسي، بقدر ما هو قرار رفض لعملية يتم تشويهها بإرادة سياسية هدفها إضعاف الآليات الديموقراطية والالتفاف على إرادة الشعب للسيطرة على الحكومة والبرلمان المقبلين.