بيروت عبر شرفة الذاكرة: نادر سراج يروي قصة مدينة معلّقة بين الهوية والمعاصرة

بيروت عبر شرفة الذاكرة: نادر سراج يروي قصة مدينة معلّقة بين الهوية والمعاصرة

في أمسيةٍ حملت عبق الذاكرة ووهج الحنين، التأمت قلوب العشاق الحقيقيين لبيروت، في لقاءٍ أدبيٍّ ثقافيٍّ نظّمته جمعية “السبيل” بالتعاون مع جمعية “تراث بيروت”، مساء الخميس 26 حزيران /يونيو، في رحاب “المكتبة العامة لبلدية بيروت” في مونو.
كان الحضور على موعد مع قراءةٍ في كتاب “بيروت، جدل الهوية والحداثة” للباحث والأكاديمي الدكتور نادر سراج، الذي اصطحبه في جولة سردية – بصرية، عبر ممرات المدينة، أزقتها، شوارعها، وأسرارها، في رحلةٍ تمزج بين البعد التاريخي والبعد الإنساني.

وقف سراج أمام الحضور، لا كباحثٍ يسرد وقائع، بل كعاشقٍ يتلو سِفْر مدينةٍ يحفظها عن ظهر قلب. لم يكن الحديث عن بيروت عرضًا لصور وأحداث، بل تقصٍّ بصريٌّ ولسانيٌّ عميق لوجهها، لأهلها، لحجارتها التي ما زالت تنبض بالحكايات.

استهل سراج حديثه من “درج مدرسة الصنائع”، حيث مرّ عليه طلاب وأساتذة وشخصيات طبعت الذاكرة البيروتية، ليحكي كيف بناها العثمانيون ذات زمن، كمؤسسة للعلم وللنهضة. ومن هناك انتقل إلى “قصر الصنوبر”، ذاك الصرح الذي شيّده الفرنسيون على الطراز الباريسي ليحاكي “كازينيو دو فيل” في قلب فرنسا، جامعًا في تكوينه بين الرفاه والسلطة ورمزية الانتداب.

 

غلاف الكتاب.

 

لكن سراج لم يكتف بالوقوف عند الأبنية والمعالم؛ كانت نزهته الأدبية والتوثيقية أكثر عمقًا. عرج على الأحياء الراقية والأسواق الشعبية، ليلتقط من كل زاوية نبضًا، ومن كل حارة همسًا. تحدث عن “أفينو دو فرانسيه” البحرية  أو جادة الفرنسيين التي ارتبطت لدى البيروتيين بالـ”كزدورة أو التمشايي”، التي طُمس حضورها قسرًا، كما طُمست معالم كثيرة من الذاكرة البيروتية، في محاولات لتغيير وجه المدينة.

بعينٍ ناقدة ونفسٍ عاشق، تسلّل إلى تفاصيل التفاصيل، إلى الملامح المنسية، إلى هوية الأشخاص الذين شكّلوا نبض المدينة، وخرج بقصة مدينةٍ ليست مجرّد حجارة وأبنية، بل كائن حيّ يتنفس من تراثه ويتشكّل في حداثته.

لم يكن سراج مؤرخًا بالمفهوم الكلاسيكي، بل بدا كـ”عين الماضي”، تلك التي تحدّق جيدًا في ذاكرةٍ تم تشويهها بالحروب والخرائط والمصالح. أما الحاضرون، فغادروا الندوة محمّلين بأسئلةٍ وانبهارات، وحنينٍ أوجع القلب، كأن بيروت – بكلّ تفاصيلها – حضرت في المكتبة، ناطقةً بصوت حجارتها ووجوه أبنائها.

في زمن تتلاشى فيه الملامح وتبهت فيه الهوية، تأتي كتبٌ مثل “بيروت، جدل الهوية والحداثة” لتذكّرنا أننا لا نعيش في مدينةٍ عادية، بل في ذاكرةٍ تمشي على إسفلت، مدينةٍ تتوارى لتُكتشف من جديد، في الصور، وفي الكلمات، وفي العيون التي ما زالت تعرف كيف تنظر إلى الوراء لتصنع غدًا أكثر صدقًا.