عندما ينام الوطن على كنز سياحي يُدعى البقاع!

عندما ينام الوطن على كنز سياحي يُدعى البقاع!

لينا أحمد مراد 
محاطٌاً بهيبة الجبال اللبنانية، يرقد سهل البقاع لا كأرض زراعية فحسب، بل كعالمٍ سِحري قائم في ذاته.
أنا أعيش هنا. أراه كلّ يوم. ومع ذلك، لا تكفّ دهشتي في كل مرة أُبصر فيها غروب الشمس الذهبي فوق عنجر، أو كروم العنب المتلألئة بندى الفجر، أو القمم المكلّلة بالثلوج تنعكس في مياه بحيرة القرعون.
كأنني أختبر الحب الأول مراراً… خالصاً، ساحراً، لا يُنسى.
في هذا السهل، كنوزٌ تختصر لبنان الحقيقي:
من المعابد الرومانية في بعلبك، إلى الأديرة والطرق البيئية في راشيا… كل حجرٍ فيه رواية، وكل جدولٍ فيه قصيدة.
لكن رغم هذا الجمال، يلاحقني سؤالٌ لا يفارقني:
أين وزارة السياحة؟
كيف يُهمل هذا الكنز؟ كيف تُترك هذه الجوهرة في الظلّ، بينما يمكنها أن تكون واجهة السياحة اللبنانية؟
الفرص كثيرة: نُزُل بيئية، مسارات تراثية، مهرجانات ثقافية، ووجهات استجمام.
كلّ ما نحتاجه هو… الرؤية.
لكننا لا نزال ننتظر.
بدلاً من تسليط الضوء على عجائب البقاع، نُظهره بعدسة الإهمال والفقر.
لكن البقاع ليس ألماً… بل أمل.
هو لوحة من الجمال، والصلابة، والفرص النائمة.

حيث الزمن يتوقف: بعلبك، مدينة الكنوز
في بعلبك، لا ترى مجرد آثار… بل تخوض رحلة في الزمن.
معبد جوبيتر ومعبد باخوس لا يزالان شامخَين فوق السهل، لا كأطلال، بل كأعمدة حيّة تشهد على آلاف السنين من الحضارات المتعاقبة.
بعلبك، المصنّفة ضمن مواقع التراث العالمي لليونسكو، تُعد من أعظم المواقع الأثرية الرومانية وأهمها في العالم.
الوقوف تحت هذه الأعمدة الضخمة هو الوقوف أمام وزن التاريخ… وسحر أرضٍ نُسيت ظلماً.
لكن بعلبك ليست فقط مسرحاً لمهرجانات صيفية ثم تُطوى صفحتها.
يمكن تحويل هذا الموقع العريق إلى مركز دائم للتعلم الثقافي والتاريخي:
متحف تفاعلي داخل المعابد، ورش عمل أثرية مفتوحة للزوار، رحلات تعليمية للطلاب، وإقامة ليالٍ ضوئية تروي قصة المعابد عبر تقنيات حديثة .
ففي كل زاوية من بعلبك، حكاية تنتظر أن تُروى… وسياحة تنتظر أن تُبنى على أسسٍ مستدامة لا تُطفأ بانتهاء موسم الصيف.
عنجر: تناغم الحضارات في مدينة واحدة
في قلب السهل، تختبئ عنجر كأنها معجزة نُسيت. مدينة صامتة، متقنة، غارقة في عبق الماضي.
بناها الخليفة الوليد بن عبد الملك في القرن الثامن الميلادي، على تخطيط روماني، بعناصر معمارية بيزنطية، وروح إسلامية.
عنجر، موقع تراث عالمي، ليست مجرد آثار، بل فسيفساء حيّة من حضارات التقت لتبني هوية لبنان الثقافية والإنسانية.
لكن هذه المدينة التي تتنفس التاريخ في كل زاوية منها، يمكن أن تتحوّل إلى وجهة سياحية تعليمية وثقافية من الطراز الرفيع.
تخيلوا لو أُنشئ فيها مركز تفاعلي للزوار يشرح تاريخ المدينة عبر تقنيات الواقع المعزز (AR)، أو أُقيمت سوق حرفية دائمة تحيي التراث الأرمني اللبناني الذي يسكن المكان، أو لو تم تنظيم جولات ثقافية لطلاب المدارس والجامعات من مختلف المناطق اللبنانية.
عنجر قادرة على أن تكون كتاباً مفتوحاً للتاريخ، وفنًّا حياً يعكس روح التعايش، لو وجد من يفتح هذا الكتاب… ويقرأه للعالم.

معابد نيحا: حين يهمس الحجر بأسرار الزمن
في أحضان الجبال، بين كروم العنب وغابات الصنوبر، ترقد معابد نيحا، في كلٍّ من البقاع والشوف.
أماكن مقدسة نُقشت في الصخور، هادئة، غامضة، لا تطرقها أقدام كثيرين… لكنها تمسّ الروح وتخاطب الحواس بصمتها المهيب.
في نيحا الشوف، تقف المعابد على ارتفاع يطلّ على محمية أرز الشوف، تأسر القلب بجمالها وسكونها.
هي ليست فقط معالم أثرية، بل أماكن تُشعرك بأنك أقرب إلى السماء… إلى الذات… وإلى التاريخ الذي لا يُقال بالكلمات.
لكن هذا الهدوء الساحر لا يعني الغياب عن الخريطة السياحية.
يمكن الاستثمار في معابد نيحا بطرق تحترم روح المكان وتُفعّل حضور الزائر:
من خلال مسارات مشي هادئة ومحمية، لوحات تفسيرية ذكية، جلسات تأمل أو يوغا في أحضان الطبيعة، ومهرجانات ثقافية صغيرة مستوحاة من رمزية المعابد تجمع بين الفن والتاريخ والطبيعة.
معابد نيحا لا تحتاج ضجيجاً… بل رؤية هادئة تليق بعظمتها.

بحيرة القرعون: مرآة السهل… ومرآة الفرص الضائعة
على الطرف الجنوبي من سهل البقاع، تمتدّ بحيرة القرعون كأنّها مرآة طبيعية تعكس وجه الوطن المنسي.
هي الأكبر في لبنان، شكّلتها مياه نهر الليطاني، واحتضنها سدّ القرعون منذ خمسينات القرن الماضي.
تنعكس في مياهها الزرقاء الجبال، والغيوم، والأحلام المؤجلة.
مكانٌ مثالي للتنزه، ولرحلات القوارب، ولمراقبة أسراب الطيور المهاجرة التي تحوّل المكان شتاءً وربيعاً إلى جنة طبيعية لا مثيل لها.
لكن البحيرة ليست مجرد لوحة فنية… إنها فرصة ذهبية تنتظر أن تُمسك بالأيادي الصادقة.
بلمسة من الرؤية، وقليل من الدعم، يمكن تحويل القرعون إلى وجهة سياحية بيئية راقية:
منتجعات عائلية صغيرة، أكواخ خشبية مستدامة، نُزل صديقة للبيئة، مسارات مشي، مهرجانات محلية، فعاليات ثقافية في الهواء الطلق، وأسواق لمنتجات أهل البقاع.
والأهم؟ أنها قد تعيد الأمل الى قرى بكاملها… تُنعش الاقتصاد، وتُبقي أبناءها في أرضهم، بدلًا من أن تهاجر أحلامهم مع الطيور.
لكن البحيرة… ما زالت تنتظر.
تلمع في صمت، كأنها تنادي من يراها حقاً.

راشيا الوادي: قلعة تصون الذاكرة الوطنية… وتنادي من يعيد إليها الحياة
تحت ظلال جبل حرمون، تتناثر منازل راشيا الوادي الحجرية كأنها قصائد محفورة في جسد الزمن.
أزقة ضيقة تنبض بالحنين، أسطح قرميدية دافئة، حرف يدوية تعبّر عن هوية لم تُنسَ، وعرقٌ لبناني أصيل سقى هذه الأرض وفاءً وصموداً.
لكن قلب راشيا النابض، بل ضميرها الحيّ، هو قلعة الاستقلال – حيث سُجن قادة لبنان عام 1943 على يد الانتداب الفرنسي، فقط لأنهم حلموا بالحرية.
من بين جدرانها الصامتة، ولدت الدولة، وتكوّنت أولى ملامح الكرامة اللبنانية.
اليوم، ما زالت القلعة شامخة، تُطلّ على الوادي والروح معاً، شاهدة على شجاعة الرجال ووحدة الأرض.
لكن راشيا ليست فقط تاريخاً… إنها مكان للذين يبحثون عن المعنى، عن الجذور، عن الوطن في أبسط تفاصيله.
وهنا تكمُن الفرصة:
أن تتحوّل راشيا إلى قرية نموذجية للتراث الوطني، تُقام فيها برامج تعليمية عن الاستقلال، متحف حيّ داخل القلعة، مسارات سياحية توثّق الذاكرة، أسواق تراثية تُعيد إحياء الحرف، ونُزل عائلية تحتضن الزوّار بروح القرى اللبنانية الأصيلة.
راشيا لا تطلب الكثير… بل من يسمع صدى التاريخ في حجارتها، ويرى الوطن في ملامحها.

قاع الريم وكهوف الفرزل: المملكة الصامتة تحت التلال…  
في عمق سهل البقاع، حيث لا يصل إلا من يحمل قلب المغامرة، تخبئ الطبيعة كنزاً من الجمال والغموض:
كهوف الفرزل، المعروفة محلياً باسم “المغارة”، منحوتة في قلب الجبل، تطلّ على السهل كأنها شرفةٌ على الذاكرة.
هنا، حيث اختبأ الناس من الخوف والظلم عبر العصور، لا تسمع سوى صدى الصمت، ووشوشات الزمان المنسي.
جدران الكهف تحكي عن بشرٍ احتموا بالصخر، وصنعوا من العزلة حكايات لم تُكتب بعد.
قريباً من هناك، تقع بلدة قاع الريم، بتراثها، وسوقها التقليدية، وموقعها الذي كان في ما مضى مفترق طرقٍ بين القرى والتاريخ.
فما الذي يمنع أن تتحوّل هذه المنطقة إلى مملكة للسياحة البيئية والمغامرة الهادئة؟
بإمكانها أن تحتضن مسارات مشي مشوّقة داخل الكهوف، تجارب استكشافية آمنة، ورشات فنية في حضن الطبيعة، ومقاهي صغيرة تُطل على السهل، تنبض بروح البساطة والدفء.
بضع لمسات كفيلة أن تُخرج هذا الكنز من الظل، وأن تُنير في داخله الحياة.
لكن كغيرها من معالم البقاع… تنتظر من يراها حقاً، ويؤمن بأن في الصخور أحياناً، تنام أعظم القصص.
فمتى يُدرج البقاع على خرائط وزارة السياحة 
 ويحظى أهله بما يستحقون من اهتمامٍ وإنصاف؟