آراء حول “سعيد تحسين بك: المجموعة الكاملة من الأعمال الشعرية” (3)

آراء حول “سعيد تحسين بك: المجموعة الكاملة من الأعمال الشعرية” (3)

إبراهيم سمو ـ ألمانيا 

  

الغلاف كقصيدة أولى: قراءة في البعد البصري
هل يُقرأ الغلاف كنصّ مجاور؟ وهل للملامح أن تنقل ما لا تقوى عليه الكلمات؟
حين نتأمل غلاف ديوان الشاعر سعيد تحسين، لا نقف أمام صورة شخصية جامدة، بل إزاء لوحة سوريالية هادئة وعميقة، تكاد تتحوّل إلى “قصيدة بصرية” تُكثّف وجدان صاحبها، وتلمّح إلى أسئلة الشعر، والهوية، والذاكرة، والأمل الممزوج بالفقد.
يطلّ الشاعر بهدوء، بسحنة رتيبة لا تخلو من صرامة، وتشرق ملامحه خلف نظّارة شفّافة، يؤطرها شَعر رماديّ يشوبه لمعان ذهبي؛ لا ليدلّ على تقادم العمر فحسب، بل ليشير أيضا إلى وعيٍ مسؤول بالحياة، وإلى تجربةٍ إنسانيةٍ تميّزت بأنها أينعت تحت وطأة الانكسارات، وأشرقت رغم اختناقها بأخطبوطية الظلال.
وجهُ سعيد تحسين وجهٌ نادر؛ لا لأنه مميّزٌ تشكيليًا، بل لأنه “مكتوب” من الداخل بالشِّعر، كأن الزمن نفسه قد نقش عليه آثار التأمل.
عينا الشاعر لا تلمعان من نشوةٍ عابرة، بل من شظايا داخلية، من توهّجٍ يقاوم غبار الحياة، ومن نورٍ يتسلّل من رماد التجربة ليبرهن أن “الأمل”، عند صاحب “الأعمال”، ليس شعاراً استعراضياً، بل فعلُ مقاومة جماليّة.
وفي لحظة سوريالية، كما لو كنّا داخل لوحة لـ”مان راي” أو “دالي”، يبزغ خلف كتف الشاعر وجهٌ أنثويّ باهت، يتناثر شعره كغمامة مطيرة أو ألسنة لهب متوهّجة ويشع لا ليزخرف المشهد، بل ليتمم من خصوبته ما لم تقله بلاغة الشاعر وأحاسيسه الدفاقة، وليعزّز أن المرأة، في شعر سعيد تحسين، ليست مجرّد “حبيبة” ولا “رمزاً غزلياً”، بل منزلةٌ شعرية، وهاجسٌ دائم، ظلّ ملازماً للذات، وانفتاحاً صامتاً على الحياة والوجود والإنسانية.
“التمثيل البصري” يلتقط الأنثى كأحد أكثر أفكار تحسين شعرية وعمقاً، مجسّداً إياها كمجلى للمطلق، وكحقيقة منسية يُعاد إليها الاعتبار عبر الشعر.
الوجه المبثوث في الخلفية يكاد يصرخ بلا صوت: ” أنا هنا “، كما تصرخ القضايا المنسيّة، وكما تتكلم القصائد حين تُقرأ في الصمت.
الفنان كمال حراقي، مصمّم الغلاف، لا يقدّم صورة توثيقية للشاعر، بل ينجح في ترجمة باطنه إلى “مظهر بصريّ”. لا زيف في الصورة، ولا صخب، بل بساطة مركّبة وصرامة مشهدية تُعيد الاعتبار إلى فكرة الغلاف كقصيدة بصرية، لا تقل في رمزيتها عن القصيدة المكتوبة.
ثمّة اقتصاد بصري يوازي الاقتصاد اللغوي للشاعر، حيث تتجلّى المفارقة الهادئة: كثافة المعنى بأقل قدر من العناصر. حتى لون الشَّعر، المتأرجح بين الرمادي والمذهّب، يهمس ـ ربّما ـ بأن الشِّعر معدنٌ نفيس، يجمع الفضة إلى الذهب.
لقد أدرك حرّاقي الفنان أن سعيد تحسين لا يكتب الشعر فحسب، بل يحياه كهوية. لذا، يقدّم الغلاف كـ”عتبة صوفية ” إلى عالم الشاعر: لا تدخل هذا العالم ما لم تخلع عنك الأحكام الجاهزة، واقرأ الوجه كما لو كنت تقرأ سيرة.
في هذا السياق، يتحوّل الغلاف من “إطار طباعي” إلى “مرآة داخلية”، إلى “نصٍّ بصريٍّ موازٍ” يتكامل مع القصائد، بل ويمهّد لها، كأنّ الوجه ذاته هو القصيدة الأولى في “الأعمال”.
وليس عبثًا أن تُجاور هذه الملامح في الغلاف ظلالُ امرأةٍ، فهي تجتمع لترسي انتصاراً صامتاً لقضيةٍ استُنبط مضمونُها من روح الشاعر وتجربته، التي مفادُها أن المرأة ليست رمزاً للغواية، بل صوتاً إنسانيّاً مكسوراً، يُراد له أن يُسمع: كأمّ، وأخت، وحبيبة، ومُجَوَّرٍ عليها، و… قدّيسة. ثم فحضورُها في “الساحة الخلفية” لا يدلّ على تجلٍّ ثانويّ، بل على اختراقٍ صامت لقلب المشهد. 
وهكذا، تلتقط ريشةُ حرّاقي هواجسَ سعيد تحسين الشعرية، وتبثّها في الغلاف؛ فتظهر المرأة، في صمتها، أقوى من كلّ صُراخٍ وجعجعة. 
هذا الغلاف يُذكّرنا بأن الشعر ليس كلمات فحسب، بل علامات، وبصريات، وإيماءات؛ وأن صورة واحدة، إذا شُغلت بالصدق والتأمل، قد تُغني عن ديوان بأكمله. 
وربما يكفي أن يُطرح السؤال: “هل الغلاف نصٌّ مجاور؟ ” حتى يتبيّن أن الجواب، منذ البدء، كان كامناً فيه.