الحرب التي تُهيئ لقيام إسرائيل جديدة

الحرب التي تُهيئ لقيام إسرائيل جديدة

تعتبر الحرب الإسرائيلية ـ الإيرانية الأولى من نوعها التي تخوضها إسرائيل مع دولة من خارج الإقليم، أو مع دولة غير عربية، ثم إنها السادسة من نوعها ضد جيش نظامي، إذا احتسبنا الحروب الخمسة ضد جيوش دول عربية (1948، 1956، 1967، 1969/الاستنزاف، 1973)، إضافة إلى سبعة حروب شنتها ضد قوى لا دولتية، أو ميليشياوية، اثنتان منها في لبنان (1982، 2006)، وخمسة ضد قطاع غزة (2008، 2012، 2014، 2021، 2023، وهذه الأخيرة شملت لبنان).

بيد أن أهم ما يمكن ملاحظته، في مسارات كل تلك الحروب وتأثيراتها وتداعياتها، أن ثلاثة منها أسست لإسرائيل، أو شكّلت منعطفاً تاريخياً مغايراً، في تاريخ هذه الدولة، وفي مكانتها في الإقليم وفي العالم.

الأولى تضمنت إعلان إقامة دولة إسرائيل (1948)، التي فرضت ذاتها في منطقة المشرق العربي، وشكّلت ما يسمّى “بوتقة الصهر” لليهود المتحدّرين من عشرات البلدان، في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا؛ وبديهي أن هذا الوضع شكّل تغيراً سياسياً وجغرافياً وديمغرافياً وأمنياً في الشرق الأوسط.

الثانية شنتها إسرائيل ضد الدول المجاورة (1967)، مصر وسوريا والأردن، وتمكّنت خلالها من استكمال هيمنتها على كل فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، وفرضت ذاتها قوةً إقليمية وحيدة في المنطقة، بعد تغلّبها على عدة جيوش عربية، إضافة إلى أنها في تلك الحرب، أزاحت العالم العربي من فكرة محاربة وجود إسرائيل، إلى الاعتراف بوجودها في حدود ما قبل حرب الـ 1967.

أما الثالثة الحالية فتختلف عن الحروب السابقة، إذ كسرت إسرائيل فيها، أو تجاوزت، كل المعايير والنظريات التي احتكمت لها سابقاً في استراتيجيتها العسكرية. فإسرائيل، هذه المرة، تخوض حرباً في ساحتها الداخلية والخارجية، في آن واحد. وهي حرب مديدة وليست سريعة، أو خاطفة، إذ بات لها 21 شهراً. وهي حرب تخوضها إسرائيل ضد قوى دولتية ولا دولتية، في آن واحد. وفوق كل ذلك، تشنّ إسرائيل حربها الحالية في عدة جبهات، قريبة وبعيدة، من لبنان إلى طهران واليمن.

المهم في الحرب الحالية أن إسرائيل لا تتوخى فقط الدفاع عن حدودها، أو ردع خصومها، أو التوسع الجغرافي، أو فرض إملاءات سياسية على الأطراف الأخرى، بل هي، على ما يظهر، تجاوزت كل ذلك، فهي بقوتها التدميرية، والتكنولوجية، والاستخباراتية، تبعاً لما شهدته ساحات غزة ولبنان وسوريا واليمن وإيران، تسعى لفرض ذاتها كقوة إقليمية عظمى وحيدة في الشرق الأوسط، على حساب إيران، التي تحاول كسرها، وعلى حساب تركيا أيضاً؛ وبديهي أن ذلك سيكون على حساب أقطاب العالم العربي.

مأزق إسرائيل في كل تلك الحروب أنها تستمدّ الدعم السياسي والمالي والتكنولوجي والعسكري والاستخباراتي من الغرب، خصوصاً من الولايات المتحدة، التي تضمن أمنها وتفوّقها في المنطقة. ويستنتج من ذلك أن إسرائيل، التي تمتلك تفوقاً اقتصادياً وتكنولوجياً وعسكرياً على الدول المجاورة، وتتمتع بأفضلية في إدارة أوضاعها ومواردها البشرية، لا تملك وحدها حسم تلك الحروب، إلى درجة فرض ذاتها بذاتها في الشرق الأوسط. ولعل الحرب الحالية توضح كل ذلك، سواءٌ في غزة، أم في لبنان، أم في طهران، أي إن الإدارة الأميركية هي التي تقرّر السقف المسموح به.

وقد شهدنا، مثلاً، أن إسرائيل تراجعت في مشهد الشرق الأوسط منذ احتلال الولايات المتحدة للعراق (2003)، لصالح إيران، التي لزمتها الإدارة الأميركية، أو سمحت لنفوذها بالتوسع في العراق ولبنان وسوريا، إذ باتت إيران، بحكم الاستثمار الأميركي، وتالياً الإسرائيلي، بمثابة الدولة الأكثر نشاطاً وفاعلية في دول المشرق العربي، إلى أن أتت عملية “طوفان الأقصى” التي وجدت فيها إسرائيل فرصتها السانحة لقلب المعادلة، والحسم ضد الوجود الإيراني في المنطقة، بل وأكثر من ذلك لتعزيز مكانتها في الشرق الأوسط.

مأزق إسرائيل، أيضاً، أنها برغم جبروتها، وتقدمها، وتمتعها بفائض قوة من دعم الغرب لها، أنها صغيرة، ومحدودة الإمكانيات، وأنها بسياساتها ضد محيطها، وضد الفلسطينيين، ستبقى دولة نشاز في المنطقة، كدولة غير طبيعية، استعمارية واستيطانية وعنصرية ودينية، مع رفضها التحول إلى دولة عادية بحدود ودستور وتعايش مع كل مواطنيها، ومع جوارها، أي أنها بطبيعتها تلك عصية على التطبيع، إذ لا تستقيم العنصرية مع التطبيع، ولا القبول أو التعايش المشترك مع العسكرة وجبروت القوة.

هذه حرب تؤسس لإسرائيل أخرى على صعيدين داخلي، وخارجي، وهو التطور الذي لا بد أنه سيكون ذا أثر عليها، أي على مجتمعها، وعلى مجمل منطقة الشرق الأوسط.