هل انتهت الحاجة إلى نظام ولاية الفقيه؟

لا أحد في واشنطن يقترح إسقاط النظام في إيران. حتى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو لا يجعل الأمر هدفاً رسمياً من أهداف الحرب الحالية وإن لمّح إليه. لم يصدف سابقاً أن توفّرت أيّ خطط غربية منذ قيام الجمهورية الإسلامية عام 1979 تُعدّ العدّة لإسقاط نظامها. توفّرت حوافز كثيرة من أجل ذلك لكن الأمر الذي حظي ببيئة أيديولوجية غربية شبه جامعة في شأن إسقاط أنظمة يوغسلافيا والعراق وليبيا وأفغانستان، لم تحظَ به الحالة الإيرانية.
بدا لنا جميعاً أن إيران، للمفارقة، حاجة غربية، وربما إسرائيلية، في قلب الشرق الأوسط. أظهرت طهران عداءً حاداً ضد الغرب بقيادة “الشيطان الأكبر”، فجّرت مقرّ المارينز والسفارة الأميركية، وفجّرت ثكنة للقوات الفرنسية في لبنان، ومارست الخطف في لبنان بحقّ مواطنين وديبلوماسيين غربيين، وفجّرت قنابل في شوارع باريس وعواصم غربية أخرى. اعتُبرت إيران داعمة للإرهاب في العالم وأُدرجت داخل محور الشرّ في العالم، لكن لم يحصل أن تنادت الدول الغربية إلى التآلف لإسقاط نظام الوليّ الفقيه في طهران.
قيل إن إيران حاجة غربية دائمة سواء حكمها شاه أو مرشد. تخلى الأميركيون عن حليفهم محمد رضا بهلوي عام 1979 ليحملوا روح الله الخميني إلى سدة الحكم في طهران. احتاج الغرب حينها إلى نظام ديني قوي، يكون بديلاً من نظام علماني يترنّح، ليقف سدّاً أمام نظام شيوعي “ملحد” في الاتحاد السوفياتي.
أدّت إيران لاحقاً دوراً حليفاً داعماً للولايات المتحدة لإسقاط نظام “طالبان” في أفغانستان عام 2001 ونظام صدام حسين في العراق عام 2003. حظيت في نصوص المحافظين الجدد الناشطين في أروقة قرار ما بعد كارثة 11 أيلول/ سبتمبر 2001 بدعوات لتحالف الولايات المتحدة مع عنوان وحيد للشيعية السياسية الجهادية في طهران مقابل عداء لإسلام سنيّ جهادي ضرب في قلب الولايات المتحدة ولا عنوان محدّداً له.
ذهب باراك أوباما بعيداً في فكرة التحالف مع إيران إلى درجة تتجاوز فكرة الاحتواء الشهيرة. خرج يكشف في “عقيدته” الشهيرة، التي كتب عنها جيفري غولدبيرغ في The Atlantic الأميركية عام 2016، عن إعجاب بالحالة الإيرانية وعن لوم يوزعه على الدول العربية المحيطة. منحت “البركة” الأميركية إيران جرعات قوة إلى حدود غطرسة أخافت الشرق الأوسط. ولطالما ربط المراقبون بين ارتفاع درجة الخوف من إيران بارتفاع حجم عقود التسلّح التي تبرمها دول المنطقة مع الولايات المتحدة.
تبادلت إسرائيل وإيران خلال العقود الأخيرة تخادماً يغذي مصالحهما المفترض أنها على نقيض. تعاظم زحف اليمين الإسرائيلي، ولا سيما بقيادة نتنياهو، بصفته الصدّ الاستراتيجي الوحيد الذي يردّ الخطر الوجودي الذي ما برحت تهدّد به إيران علناً على لسان قادتها. فكلما صدر وعد بإغراق إسرائيل في البحر أو إحالتها إلى عدم، وجد نتنياهو وجماعاته مبرّرات لإطلاق خطاب مظلومية يستدرج التضامن الغربي دعماً وتأييداً وتمويلاً وتفهّماً لـ”حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها”.
بالمقابل نهل نظام الجمهورية الإسلامية سردياته من الوعد بمواجهة إسرائيل واحتلالها وخطاب يمينها، وراح يجهد لنشر الفصائل والأذرع على طريق “تحرير القدس”. بدت هذه اللعبة المتبادلة ثقيلة تدفع بلدان المنطقة ثمنها وسط رعاية أميركية غربية تعايشت معها دول كبرى أساسية مثل روسيا والصين. كانت بكين وموسكو حليفتين لطهران تعقدان معها شراكات “استراتيجية”، فيما علاقة العاصمتين شديدة التقدم مع إسرائيل تتشارك معها في المصالح والنفوذ.
نشهد حالياً نهاية عهد. انتهت الجمهورية الإسلامية مهما كانت مآلات هذه الحرب. أنهت واشنطن هيامها بعنوان الشيعة الوحيد. تخلّت إسرائيل عن أحد مبرّرات غيّها. لم يعد العالم بغربه، لكن أيضاً بشرقه، بحاجة إلى خدمات الوليّ وجمهوريته. وحدها إيران التي أحسنت “معاشرة” هذا العالم أساءت فهمه منذ “الطوفان” في خريف عام 2023.