الإنقاذ النهائي في ‘وادي الفراشات’: كيف تحررنا الكتب من الموت بلا هويات

في روايته “وادي الفراشات” (دار الرافدين)، لا يكتب أزهر جرجيس حكاية فقط، بل يُشيّد مرثية حب لوطنٍ، كما لو أنه يهمس في أذن قارئه أن هذا الألم، مهما اشتد، يمكن أن يُروى، ويمكن حتى أن يُعاش كقصة عشق خافتة مع الحياة، على الرغم من الجراح.
بين سخرية القدر وحنان الفقد، يمضي الراوي في نثره مثل عاشق خائف على ذاكرة حبيبته، يُسجّل بدقّة حزن العراق وتفاصيله، محولاً الرواية الصادرة عن دار الرافدين، إلى دفتر أرواح، لا يكتفي بتدوين أسماء الراحلين، بل يوثّق لحظات الفقد التي بقيت حيّة، نابضة، تنتظر دفناً يليق بها، أو قبلة أخيرة من سطر دافئ.
تبدأ الرواية بجملة تشبه تنهيدة رجل حزين: “تتضاعف المصيبة حين لا نعرف لونها”. من هنا، ينطلق عزيز عواد، بطل الرواية، في رحلة تشبه التوغّل في قلب عاشق فقد حبيبته في العتمة. لا شيء واضح، لا الحب، لا الحياة، لا الخسارة، ولا حتى الألم. كل شيء رماديّ، ثم أسود، ثم يُنحر على عتبات الواقع المتصدّع.
ومع كل خسارة: بيتٌ ينهار، ابنٌ يُفقد، عملٌ يُسلب، يأتي الأمل فجأة على هيئة طفل اسمه جبران، كأنه قدر يعيد لعزيز نبضه، وكأن كل الحب الذي غادره قرّر أن يعود في جسد صغير، باسم خاله، بروح السماء.
ليست هذه رواية عن رجل منكوب فحسب، بل عن وطنٍ أحبّ أبناءه كثيراً، لكنه لم يُحسن احتضانهم. وطنٌ هجرت فيه الثقافة بيوتها، وصار الحبر رفاهية، والكتب روائح تُغري أكثر مما تُقرأ. إنها مفارقة موجعة: أن تنجذب للكتب كما تنجذب لعطر حبيب سابق — لا لقراءتها، بل فقط لاسترجاع ذكرى الدفء فيها.
في سجن الذاكرة، يُعاقب عزيز لا لأنه قاتل أو لص، بل لأنه أحب الكتب كثيراً، أحبها بما يكفي ليُدان بتهمة الحنين. وتصبح المكتبة – تلك الزاوية المنسية – معبده السري، حيث لا تُمارس الطقوس، بل تُحتضن الأحلام المهملة.
الكاتب أزهر جرجيس
تتأرجح الرواية التي نجحت بالوصول الى القائمة القصيرة للبوكر بين نقيضين: الخراب الذي يلتهم الواقع كوحش جائع، والخلاص الذي يلوّح له الكاتب من خلف سحب الخيال، حين تتحوّل أرواح الأطفال في المقابر إلى فراشات تضيء العتمة. وكأن الفقد لا يُعالج بالمنطق، بل بالحبّ، بالأسماء، وبالكتابة.
الحبّ في هذه الرواية، لا يموت. حتى الموت يُكتب بحنان. الخال جبران، رمز النقاء والوفاء، يموت، لكنه يترك لعزيز المخطوطة. لا وصية، بل قبلة أخيرة على جبين الحياة، تهمس له أن يستمر، أن يُسمّي، أن يُدفن بلطف، أن يكتب. لأنه في زمن الخراب، لا شيء ينجو سوى السرد، ولا خلاص إلا بالحب الذي نمنحه للأشياء، ولو كانت كلمات.
اقتباس: هي ليست فقط رواية، بل نشيد حبّ حزين، يُسافر بك بين دفاتر الموت ودفء الحنين.