ماكرون من القاهرة إلى العالم.. هنا تُصنع السياسة ويبقى التاريخ

شبكة تواصل الإخبارية تقدم لكم خبر
في مدنٍ قليلة، تمتزج رائحة الحجر القديم بصوت السياسة الحديثة، ويقف التاريخ في الشوارع كأنه شاهد عيان على كل ما كان وكل ما سيكون، ومن بين هذه المدن، تقف القاهرة وحدها كأمّ للعواصم، وراوية كُبرى لحكاية الشرق والغرب معًا.
ليست زيارة رئيس الجمهورية الفرنسية إيمانويل ماكرون إلى القاهرة مجرد مناسبة دبلوماسية تُسجَّل في دفاتر العلاقات الدولية، بل هي لحظة نادرة تُدوَّن في سجلّ الذاكرة السياسية والحضارية، إذ التقت روح التاريخ بنبض الحاضر في مشهد فريد لا يتكرّر كثيرًا في عواصم العالم.
لقد جاءت هذه الزيارة محمَّلة بدلالات تفوق الكلمات، في وقت يشهد فيه العالم تحولات متسارعة، وتبدو فيه الحاجة ملحة لنماذج من العلاقات التي تحترم العقل وتُقدّر الحضارة وتبني على المشتركات الإنسانية، لا على الاصطفافات العابرة والمصالح الضيقة، وفي القاهرة لم يكن ماكرون يزور بلدًا، بل حضارة، لم يكن يعبر جغرافيا، بل يسير فوق طبقات من الزمن، فوق أرضٍ إذا مشت عليها السياسة، مشت بخطى التاريخ ذاته.
وسط أجواء من الحفاوة والترحاب، استقبلت مصر رئيس الجمهورية الفرنسية في زيارة رسمية جسدت عمق العلاقات بين البلدين، وأكدت من جديد أن القاهرة وباريس تسيران معًا بخطى ثابتة نحو شراكة استراتيجية قائمة على الاحترام المتبادل وتبادل المصالح والرؤى المشتركة، الزيارة لم تكن بروتوكولية فحسب، بل كانت مليئة بالإشارات والرموز التي عكست خصوصية العلاقة بين البلدين، وحرص القيادة السياسية المصرية على إظهار ما لهذه العلاقة من مكانة خاصة، ليس فقط على مستوى الحكومات، ولكن على مستوى الشعوب أيضًا.
فمنذ اللحظة الأولى لوصول الرئيس الفرنسي إلى القاهرة، كان واضحًا أن الدولة المصرية بجميع مؤسساتها أعدّت لهذه الزيارة بكل اهتمام وتقدير، إذ ظهر الترحيب الرسمي في أدق التفاصيل بدءًا من مراسم الاستقبال وحتى التحركات المشتركة بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره الفرنسي في قلب القاهرة، في مشهد يعكس ليس فقط قوة العلاقات الدبلوماسية، بل أيضًا دفء الروابط الإنسانية والحضارية التي تجمع بين الشعبين المصري والفرنسي.
الرئيس السيسي حرص على أن يصحب الرئيس ماكرون في جولة غير تقليدية، بعيدًا عن أروقة القصور والمكاتب، إلى شوارع القاهرة التي تنبض بالحياة والهوية، مرورًا بأماكن تراثية وثقافية تعكس وجه مصر الحقيقي، مصر التي تمزج بين التاريخ والحضارة، بين الأصالة والمعاصرة، في مشهد لا يخلو من الدلالات السياسية، حيث بدت الجولة وكأنها رسالة صامتة تقول إن القاهرة لا تستقبل ضيوفها الكبار في قاعات مغلقة فقط، بل تحتضنهم وسط أهلها، في قلب مجتمعها، بين ناسها.
الترحيب الشعبي بماكرون كان لافتًا أيضًا، إذ شهدت الجولة تفاعلًا تلقائيًا من المواطنين الذين حرصوا على إظهار ترحيبهم بالرئيس الضيف، والابتسامات التي علت الوجوه كانت أصدق تعبير عن تقدير الشعب المصري للعلاقات التاريخية التي تجمع بين البلدين، وهو ما يعكس أن العلاقة ليست مقصورة على مستوى القيادات بل تتجاوزها إلى الوجدان الشعبي، المدرك لدور فرنسا كصديق وحليف وشريك حضاري على مدى قرون.
التعاون الثقافي كان حاضرًا بقوة في الزيارة، خاصة مع اصطحاب الرئيس السيسي لماكرون لزيارة مدينة الفنون والثقافة بالعاصمة الإدارية الجديدة، في مشهد جسّد اهتمام القيادة المصرية بإبراز الوجه الثقافي والحضاري لمصر، والرهان على القوة الناعمة كأداة من أدوات السياسة الدولية، كما أبدى الرئيس الفرنسي إعجابه الشديد بالمنجزات المصرية في هذا الإطار، مؤكدًا دعم بلاده لتوسيع مجالات التعاون الثقافي والفني بين البلدين، بما يعزز من التقارب بين الشعبين ويفتح آفاقًا جديدة أمام أجيال المستقبل.
اللافت في هذه الزيارة أنها لم تُظهر فقط صداقة بين بلدين، بل قدمت نموذجًا لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين الدول التي تجمعها مصالح مشتركة وتاريخ مشترك، بعيدًا عن منطق التبعية أو فرض الإرادة، في إطار من الاحترام المتبادل والندية الواعية، إذ أثبتت مصر مرة أخرى أنها تعرف كيف تحافظ على سيادتها ومكانتها، وفي الوقت ذاته تفتح أبوابها لحوار حضاري وشراكات متوازنة تقوم على المصالح لا الأوهام.
أوروبا التي تعاني اليوم من تحديات داخلية وخارجية كبيرة باتت أكثر إدراكًا لأهمية الشراكات جنوب المتوسط، ومصر تقدم نفسها من موقع القوة لا الضعف، ومن منطلق الندية لا التبعية، كحليف لا غنى عنه في مواجهة ملفات كبرى مثل الإرهاب، والهجرة غير الشرعية، والتحولات المناخية، والنزاعات الإقليمية، فضلًا عن كونها دولة محورية ذات ثقل حضاري وتاريخي، تمتلك مفاتيح التوازن في منطقة معقدة ومليئة بالتقلبات.
وفي النهاية، فإن زيارة ماكرون إلى القاهرة وما رافقها من مشاهد الترحيب الرسمي والشعبي، ومن تناغم سياسي وثقافي، تؤكد أن القاهرة ما زالت قادرة على ممارسة دبلوماسيتها الفريدة التي تمزج بين الحكمة والقوة، وبين الحضور الإقليمي والتأثير الدولي، في وقت يتعطش فيه العالم لنماذج من هذا النوع من العلاقات التي تقوم على الثقة والعقلانية والاحترام المتبادل.
وهكذا، تثبت القاهرة من جديد أنها ليست مجرد عاصمة لدولة، بل حاضرة أمة ومهد حضارة ما زالت تلهم العالم، فكما استقبلت مصر نابليون يوم جاءها محاولًا فهم الشرق فوجد نفسه أمام حضارة أعمق من أن تُحتل، ها هي اليوم تستقبل رئيس فرنسا الحديث، لا كغازٍ أو زائر عابر، بل كشريك يُحترم ويُقدَّر، في لحظة عنوانها السيادة والتوازن.
من أزقة القاهرة القديمة إلى شوارع العاصمة الإدارية الحديثة، ومن رمزية الأهرامات إلى ديناميكية الحاضر، كانت مصر دائمًا نقطة التقاء الشرق بالغرب، ومركز إشعاع لمن أراد أن يسمع صوت الحكمة بعيدًا عن صخب البنادق.
وإذا كانت العلاقات الدولية تُبنى بالمصالح، فإن ما يجمع بين مصر وفرنسا يتجاوز ذلك، ليصبح علاقة بين شعبين وحضارتين عرفتا كيف تصمدان أمام العواصف، وتلتقيان اليوم في زمن الحاجة إلى التوازن والضمير، لتؤكدا معًا أن التاريخ لا يُصنع بالصُدفة، بل يُكتب حين تتصافح الأيدي، وتتحاور العقول، وتتوحد القلوب من أجل مستقبل يستحقه الجميع.
فمن قلب القاهرة، التي لم تُغلق يومًا أبوابها أمام من جاءها ناصحًا أو صديقًا، خرجت رسالة للعالم: هنا تُصنع السياسة.. وهنا يبقى التاريخ.
الرسالة الأهم في جولة ماكرون لم تكن مكتوبة في بيان رسمي، بل نُقشت في مشهد إنساني بامتياز: حين يتخلى رئيسٌ عن حراسته الثقيلة ويتقاطع لحظات مع تفاصيل يومية يعيشها الملايين.. هذه الزيارة لم تكن فقط لتعزيز العلاقات أو توقيع اتفاقيات، رغم أهمية ذلك، بل لتقول للعالم إن القاهرة ما زالت قادرة على أن تدهش، وأن تتحدث بلغة يفهمها كل من مرَّ بها، حتى ولو لم يتقن العربية.
وفي المتحف المصري، توقّف ماكرون أمام تماثيل الفراعنة كمن يقرأ في كتابٍ مفتوح.. ربما تساءل في نفسه: كيف استطاعت هذه الحضارة أن تصمد آلاف السنين، أن تترك كل هذا الأثر، وأن تكون حاضرة في ضمير الإنسانية حتى الآن؟
الصور التي خرجت من شوارع القاهرة ستبقى أبلغ من كل التصريحات.. ماكرون وسط الناس، وسط التاريخ، وسط حضارة لا تزال تمشي على قدميها، تقول للعالم: هنا تُصنع السياسة، نعم، ولكن هنا أيضًا يُصاغ الوعي، وتُعاد كتابة الذاكرة.
ستمرُّ الأيام، وتُسجّل الزيارة كما تُسجَّل آلاف الزيارات في كتب الأخبار والتقارير، لكن ما حدث في شوارع القاهرة القديمة، وما قيل في صمت جدران المتحف، وما لُمس من حرارة الوجدان الشعبي، سيبقى خارج هوامش البروتوكولات، محفوظًا في ذاكرة لا يطالها الغبار.. فهذه ليست زيارة عابرة، بل فصلٌ من كتابٍ أكبر، اسمه: القاهرة حين تتكلم.
وإذا كان العالم يبحث اليوم عن صوتٍ رشيد وسط ضجيج الصراعات، وعن ضوءٍ أخلاقي في زمن البرود السياسي، فإن القاهرة تقول بثقة: لا زلنا هنا.. نصنع المعنى، ونبني الجسور، ونفتح أبوابنا لمن يطرقها بالاحترام.
من قلب مصر، خرجت هذه اللحظة، لا لتُنسى، بل لتُروى.. ومن القاهرة إلى باريس، ومن ضفة النيل إلى ضفاف السين، تظل العلاقة بين الشعبين والبلدين شاهدة على أن التاريخ، حين يُكتَب من قلب حضارة، لا يموت، بل يخلّد.