صداقة مفقودة: أرسنال ودينامو موسكو في مباراة الضباب والشتائم عام 1945

حين التقت الحرب الباردة بالمستطيل الأخضر قبل أن تُعلن رسميًا
في خريف عام 1945، لم تكن العاصمة البريطانية لندن قد أفاقت بعد من آثار الحرب العالمية الثانية، الشوارع لا تزال تحتفظ بظلال الغارات، والملاعب لم تعد بعد إلى سابق عهدها، ورغم ذلك، كان الشغف بكرة القدم يفيض من كل زاوية في البلاد.
الجماهير البريطانية كانت قد حُرمت من متعة اللعبة لست سنوات كاملة، ومع عدم انطلاق الدوري المحلي حتى تلك اللحظة، مثّلت زيارة فريق دينامو موسكو إلى لندن حدثًا يفوق الخيال، آخر مباريات الفريق الروسي في جولته البريطانية كانت ضد أرسنال، لكن الأمور لم تكن طبيعية من البداية.
النادي اللندني لم يكن قادرًا على استضافة اللقاء في ملعبه التاريخي “هايبري”، إذ تم تجنيده خلال الحرب لاستخدامات عسكرية، اضطر أرسنال إلى استئجار ملعب غريمه توتنهام، “وايت هارت لين”، في مشهد بدا مثيرًا للسخرية قبل أن تبدأ أي كرة في الدوران.
الضباب ينزل الستار على الرؤية في مباراة أرسنال ودينامو
امتلأ الملعب عن آخره بحوالي 50 ألف مشجع، جميعهم متلهفون لرؤية كرة القدم تعود من رحم الدمار، لكن السماء لم تكن على وفاق مع الحشود، فبينما كانت الجماهير تهتف وتتحرق شوقًا لرؤية نجوم اللعبة، اجتاح ضباب كثيف أرضية الملعب، حتى بات من الصعب تمييز اللاعبين أو متابعة الكرة.
لم يكن هذا مجرد ضباب عابر، بل واحد من تلك السُحب القاتمة التي اشتهرت بها لندن ما قبل قانون الهواء النظيف، في الظروف العادية، كان من المفترض إلغاء المباراة فورًا، لكن وجود آلاف المتفرجين، إضافة إلى أن المباراة لا يمكن تأجيلها بسبب عودة الفريق الروسي إلى بلاده، أجبر المنظمين على الاستمرار.
Arsenal fans before the game with Dynamo Moscow on White Hart Lane, 1945 pic.twitter.com/VdpajmkqX0— FootballTime&Nations (@FCTimeNations) April 22, 2020
ما حدث بعد ذلك كان أقرب لفصل من رواية عبثية!
قوانين غائبة.. وحكم لا يرى
المباراة التي وُصفت بأنها ودية، سرعان ما تحولت إلى ساحة توتر وارتباك، الحكم الروسي لم يكن قادرًا على التواصل مع مساعديه الإنجليز، وفي خطوة غير مفهومة، تواجد المساعدان على جانب واحد من الملعب، ما جعل نصف الملعب الآخر بلا رقابة تقريبًا.
تدخلات خشنة، ضربات بالكوع، احتكاكات من كل نوع، وكل هذا يجري وسط ضباب يحجب الرؤية عن الجميع، المشجعون لم يعرفوا من سجل أو من خرج أو من ارتكب المخالفة، أرسنال اتهم خصمه الروسي بإدخال لاعب إضافي خلسة، مستغلًا ضعف الرؤية، وعند عدّ اللاعبين بالفعل تبين وجود 12 لاعبًا من دينامو في أرض الملعب.
ومع ذلك، لم يكن أرسنال في موقف يسمح له بالاحتجاج كثيرًا، إذ تعرض مهاجمه جورج دروري للطرد بسبب تدخل عنيف، لكنه عاد للملعب وكأن شيئًا لم يكن، مستغلًا فوضى التنظيم والرؤية المنعدمة.
المباراة لم تقتصر على لاعبي الفريقين فقط؛ فقد تم ضم بعض اللاعبين من فرق أخرى لتعزيز الصفوف، ومنهم النجم الإنجليزي ستانلي ماثيوز الذي ارتدى قميص أرسنال مؤقتًا، لم تكن الأسماء مهمة في تلك الليلة، فقد كان الضباب هو البطل الحقيقي، يخفي التفاصيل ويمحو الحدود بين العدل والخطأ.
On this day: 1945 – An estimated crowd of over 100,000 attended a friendly match between @ChelseaFC and Dynamo Moscow. #CFC #Chelsea pic.twitter.com/mN3OlqooMH— Chad ⭐⭐ (@ChelseaChadder) November 13, 2019
دينامو موسكو خرج فائزًا بنتيجة 4-3، على حد ما اتفقت عليه الصحف، رغم أن أرسنال أصر على أن هدفين من الأهداف الروسية سُجلا من تسلل واضح، لا أحد كان يملك صورة كاملة لما جرى، حتى الحكام أنفسهم، ما جعل النتيجة موضع شك دائم.
أرسنال ودينامو.. حين اجتمعت الحرب والكرة تحت قبة واحدة
المباراة انتهت على وقع الاتهامات المتبادلة، الصحافة البريطانية اتهمت الروس بالتحايل والتجاوز، بينما أصر الجانب الروسي على أن الفريق الإنجليزي كان خشنًا وغير رياضي، لكن الأهم لم يكن النتيجة، بل ما تركته المباراة من أثر رمزي.
الكاتب جورج أورويل، الذي كان حاضرًا للمشهد، كتب لاحقًا: “الرياضة سبب دائم للسوء… لو كان لهذه الزيارة أي تأثير على العلاقات الأنجلو-سوفيتية، فلن يكون إلا الأسوأ”، كانت كلماته نبوءة مبكرة بأن الرياضة، التي يُفترض أن تكون أداة للتقارب، قد تصبح سلاحًا ناعمًا في زمن السياسة المتأججة.
ما حدث في ذلك المساء الضبابي عام 1945 لم يكن مجرد مباراة كرة قدم، بل لحظة تجلّت فيها التوترات السياسية والإنسانية وسط المستطيل الأخضر.
وإذا كانت الحرب الباردة بدأت بعد سنوات على الورق، فقد بدأت فعليًا في وايت هارت لين، تحت ضوء باهت، وفي جو خانق، وأمام أعين مشوشة لم ترَ شيئًا.. سوى العداء.