قهوة الموت التي يحتسيها لاعبون… اللاعب رقم 12 في كرة القدم!

قهوة الموت التي يحتسيها لاعبون… اللاعب رقم 12 في كرة القدم!

في ظهيرة أحد أيام الآحاد، بينما كانت الشمس تتهادى خلف سحب استاد “ويمبلي”، وقف “جاك” مدير الكرة في نادٍ صاعد يتأمل مشهدًا مألوفًا: اللاعبون يمضغون بشراهة قطعًا صغيرة من العلكة البيضاء. تذكر فجأة جملة قالها له مدرب برازيلي عجوز قبل سنوات: “الكافيين هو آخر سحرة كرة القدم الشرعيين”، ابتسم وهو يرى في هذه العلكة الصغيرة قصة أكبر من مجرد مادة منشطة، بل هي قصة انسانية مكتملة الأركان، وربما بحث دائم عن ذرة تفوق إضافية. عند منتصف الليل، يعود إلى منزله، يفتح درجًا صغيرًا في مكتبه يحتوي على عشرات العلب الفارغة من علكة الكافيين، كل علبة تحمل ذكرى مباراة، كل قطعة علكة كانت شاهدًا على لحظات مجد أو انكسار، يسأل نفسه: هل نحن أمام مادة محايدة، أم أننا نخلق جيلًا من اللاعبين الذين لن يعرفوا معنى الأداء الحقيقي بدونها؟

في زاوية أخرى، يقبع “مايك” طبيب الفريق، الذي يحتفظ بدفتر أسود صغير، يسجل فيه جرعات الكافيين كما يسجل شاعر قصائده، خاصة وأن الخط الفاصل بين المنفعة والضرر رفيع كخيط حرير، “إنها رقصة خاصة مع الشيطان، وكلما زادت الجرعة، اقترب اللاعب من حافة الهاوية”، يقول لنفسه وهو يعدل نظارته، لكن من يستطيع إيقاف راقص في قمة أدائه؟ حسنًا، الليل يرخي سدوله على المدينة الرياضية، في الأفق تجلس “آنا”، لاعبة المنتخب النسوي وحيدة، في غرفة الملابس، تمضغ قطعة العلكة الأخيرة قبل المباراة الحاسمة، وتتذكر كيف كانت جدتها تسقيها قدحًا من القهوة الثقيلة قبل كل امتحان في المدرسة، “الكافيين هو إرث عائلي” تضحك وهي تلتقط صورة للعلبة الزرقاء لتشاركها على إنستجرام، لكن ابتسامتها تخفي شيئًا آخر: خوف واضح من أن تصبح هذه القطع الصغيرة شريكًا لا تستطيع الاستغناء عنه، تتذكر فجأة محاضرة للدكتور “لويس” يقول فيها وهو يعرض صورًا قديمة لرياضيين يتناولون أقراصًا زرقاء في الخمسينيات: “التاريخ يعيد نفسه، كل جيل له منشطاته المفضلة، وكل جيل يعتقد أنه اكتشف السر الأخير”. 

والأرقام هنا لا تكذب، لكنها تروي القصة بنبرة باردة، 97% من الأندية الإنجليزية تقدم الكافيين للاعبيها بشكل دائم، بعضهم يمضغه، وآخرون يحقنونه، وهو رقم مثير للانتباه عندما نأخذ في الاعتبار أن الإفراط في تناول الكافيين كان محظوراً في السابق من قبل الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات، وأن 12 ميكروجرام لكل مليلتر كان الحد الأقصى لتركيز الكافيين في البول بين عامي 1987 و2004، وقد رُفع الكافيين من قائمة المواد المحظورة منذ أكثر من عشرين عامًا، ولكنه أُدرج في برنامج الوكالة العالمية لمكافحة المنشطات (WADA) لعام ٢٠٢٥ لرصد أنماط إساءة الاستخدام، ومع ذلك، أصبح الكافيين جزءًا من روتين ما قبل المباراة المعتاد، إلى جانب العناصر الأساسية: الكربوهيدرات، ومشروب “ديب هيت”، ولذلك فوراء هذه الإحصائية الجافة، تكمن حكاية أجيال من اللاعبين تحولت داخلهم قطع العلكة الصغيرة إلى طقس مقدس، كأنها تمائم ضد شبح التعب، أو صلوات صامتة تقال قبل دخول المقدسات الخضراء.

والقصة، بالطبع، لا تنتهي هنا، ففي كل ملعب، في كل غرفة تبديل، في كل حقيبة لاعب، تستمر هذه العلاقة الغريبة بين الإنسان وهذه المادة البيضاء المسماة بالكافيين، بعضهم يسميها المنقذ، وآخرون يرونها بداية النهاية، لكن الجميع يتفقون على شيء واحد: كرة القدم لم تعد مجرد موهبة وتدريب، بل أصبحت معادلة معقدة من الكيمياء والعزيمة والأحلام.

الجرعة السحرية

في كتابه “من العدم: قصتي”، يكشف جيمي فاردي عن طقوسه الصباحية الغريبة، تلك التي تشبه أكثر طقوس ساحر يعد جرعاته قبل معركة مصيرية، حيث يبدأ يومه بثلاثة مشروبات طاقة وفنجان إسبريسو مزدوج، كأنه يستعد لسباق ماراثون وليس لمباراة كرة قدم؛ “لا شيء يدخل جوفي قبل أن أتناول عجة بالجبن ولحم الخنزير مع الفاصوليا المطبوخة في الساعة 11:30 صباحًا، وأتناول الوجبة مع مشروب ريد بول”، يقول فاردي، وكأنه يروي وصفة سحرية سرية، وبالطبع، الطقس لا يتوقف هنا، فبين الانتظار والتحضير، يلتهم فاردي كوبًا مزدوجًا من الإسبريسو، كأنه يستمد منه قوة خفية. 

وقبل ساعة ونصف من انطلاق المباراة، يدخل غرفة الملابس، وفي يده علبة ثالثة من ريد بول، هذه المرة لا يبتلعها دفعة واحدة، بل يرتشفها ببطء، كأنه يستمتع بكل قطرة، ويترك القليل منها ليشربه عند عودته من الإحماء، وكأنها جرعة أخيرة من الشجاعة قبل المعركة، قد يبدو هذا الروتين مبالغًا فيه، بل وحتى خطيرًا، لكن الأرقام تحكي قصة مختلفة، فإذا حسبنا كمية الكافيين التي يتناولها فاردي قبل المباراة، نجد أنها تقع في منطقة رمادية بين القوة والتهور: ثلاث علب من ريد بول (تحتوي كل منها على 80 ملغ من الكافيين) = 240 ملغ، وفنجان إسبريسو مزدوج (يتراوح بين 70 و120 ملغ)،  لنقل 100 ملغ في المتوسط، ليصبح المجموع: 340 ملغ، وهو ما يقع تحت الحد الأقصى الذي توصي به هيئة سلامة الأغذية الأوروبية (400 ملغ يوميًا للشخص العادي). 

الألعاب الإلكترونية: عندما يتحول الترفيه إلى وسيلة لاستعباد الإنسان


ولذلك فالأزمة ليست في مشروبات الطاقة فقط، بل في عناصر أخرى أكثر أهمية وجذبًا أضيفت في السنوات الماضية، جاعلة طرق الحصول على الكافيين أكثر تنوعًا من ذي قبل، على سبيل المثال، العلكة التي يمضغها اللاعبين تحتوي عادة على ما بين خمسين ومائة ملليغرام من الكافيين في كل قطعة، حسب العلامة التجارية، أما جرعات الكافيين السريعة فقد تصل إلى مائتي ملليغرام، في حين تتراوح أقراص الكافيين بين خمسين ومائة ملليغرام للقرص الواحد، وكلها خيارات تختلف في سرعة المفعول وطريقة التناول، لكنها تتفق في الهدف النهائي: إعطاء اللاعب تلك الدفعة الإضافية التي قد تُحدث الفرق بين الفوز والخسارة.

جرعات العزيمة

في مختبرات الأداء الرياضي حيث تُقاس التفاصيل بدقة الكيميائيين، ثمة سرٌ يدور حول تلك الجرعات السحرية التي تحوّل اللاعبين إلى آلاتٍ لا تعرف التعب، فتشير الأبحاث إلى أن تناول ما بين 3 إلى 6 ملغ من الكافيين لكل كيلوغرام من وزن الجسم هو النطاق الذهبي لتعزيز الأداء، لكن الدكتور روب نوتون، خبير التغذية الذي راقب أجساد اللاعبين الدوليين تحت مجهر العلم، يهمس بحقيقة أخرى: “بعض الأجساد تستطيع تحمل ما يصل إلى 9 ملغ لكل كيلوغرام”، كأنما هناك لاعبون وُلدت عروقهم لتحمل جرعاتٍ أكثر من الجنون، لكن، وفي الوقت نفسه، يحذر نوتون من تقليد أسلوب فاردي القاسي والمدمر مع الكافيين، فلا يصح أن يسمع أحدٌ أن نجمًا يسجل الأهداف بهذه الطريقة فيحاول تقليده فورًا، ولذلك يقول بنبرة الطبيب الحكيم: “الأجساد كالآلات الموسيقية، لكلٍّ نغمةٌ خاصة”. 

وفي أعماق الخلايا، حيث يخوض الجسم حربه السرية ضد التعب والإرهاق، يتحول الكافيين إلى فارسٍ أبيض، خاصة وأن الجسم يحفز ويفرز مادة “الأدينوزين” التي تهمس في الأعصاب بعد مع كل خطوة على العشب: “استرح.. كفى”. لكن الكافيين يرقص على هذه المستقبلات كالبهلوان، يطمس صوت التعب ويترك العضلات تعزف سمفونيتها بلا توقف، والأعجب أن أثره لا يقف عند هذا الحد، فبحسب نوتون: “هو أيضًا يحسن سرعة الركض، وينحت المهارات بحركاتٍ أدق من ريشة الرسام”، أي أن الكافيين يعمل ضد  الأدينوزين، ويحاربه، وينتصر عليه حتى يعيد لك انتعاشك، وشعورك بالقوة والتحقق، لكن السحر هنا ليس له قواعد ثابتة، فبينما يفضل بعض اللاعبين التهام جرعتهم قبل صافرة البداية بأربعين دقيقة، يبتلعها آخرون مع أنفاسهم الأولى داخل الملعب عن طريق العلكة العجيبة!

“نصف اللاعبين على الأقل يمضغون علكة الكافيين يوميًا كالرهبان الذين يتلون صلواتهم قبل المعركة، في أيام التدريب، تتحول حقائبهم إلى صيدليات صغيرة، أما في يوم المباراة فيصبح الكافيين ملكًا متوجًا في غرفة الملابس”. 
مدرب لياقة بدنية، طلب إخفاء هويته، لمجلة ذي أثليتيك.

وفي زاوية أخرى من القصة، يحذر نوتون من لعنة “التعود”، تلك الحقيقة المرة التي تجعل الجرعات المتكررة تفقد بريقها مع الزمن، لكن من يستطيع إقناع لاعبٍ يعيش على القهوة كالهواء أن الكافيين يحرق مستقبلاته العصبية بنفس طريقة الكوكايين؟ لقد تحولت مقاهي الأندية إلى كاتدرائيات جديدة، حيث آلات الإسبريسو الفاخرة تصنع طقوسًا يومية أكثر قدسية من التدريبات، هكذا يتحول الكافيين من مجرد مادةٍ بيضاء إلى حكايةٍ عن الحدود الضبابية بين العلم والإدمان، بين الطقوس والإنجاز، ففي الملاعب حيث تُقاس العزائم بالجرامات، يكون الفارق أحيانًا بين البطل والمهزوم هو قطعة علكة صغيرة تذوب على اللسان.

View this post on Instagram A post shared by Liverpool Football Club (@liverpoolfc)

وفي زاوية أخرى من القصة، يحذر نوتون من لعنة “التعود”، تلك الحقيقة المرة التي تجعل الجرعات المتكررة تفقد بريقها مع الزمن، لكن من يستطيع إقناع لاعبٍ يعيش على القهوة كالهواء أن الكافيين يحرق مستقبلاته العصبية بنفس طريقة الكوكايين؟ لقد تحولت مقاهي الأندية إلى كاتدرائيات جديدة، حيث آلات الإسبريسو الفاخرة تصنع طقوسًا يومية أكثر قدسية من التدريبات، هكذا يتحول الكافيين من مجرد مادةٍ بيضاء إلى حكايةٍ عن الحدود الضبابية بين العلم والإدمان، بين الطقوس والإنجاز، ففي الملاعب حيث تُقاس العزائم بالجرامات، يكون الفارق أحيانًا بين البطل والنسيان هو قطعة علكة صغيرة تذوب على اللسان.

سر العلكة 

الدكتور آدم فيلد، عالِم أداء النخبة بجامعة مانشستر متروبوليتان، يكشف لنا في دراسة بعنوان “New research may give footballers something to chew over in extra time“، سر هذا الحب الجارف، ليس للكافيين فقط، بل لعلكة الكافيين تحديدًا، وذلك لأن تأثيرها أسرع من أي شئ، فبينما تحتاج القهوة لستين دقيقة كي تسري في العروق، تخترق العلكة الممنوعة الحواجز كاللص الليلي، تتسلل عبر مستقبلات الفم لتصل إلى الدماغ في خمس دقائق فقط، وبحلول الدقيقة العاشرة، يكون 85% من الكافيين قد تحول إلى وقودٍ للعضلات، وبعد ربع ساعة؟ تصبح النسبة 100%، كأن اللاعب قد ابتلع برقاً، يضحك الدكتور فيلد. لكن السر بالطبع لا يكمن في السرعة فقط، فالكأس الأخير من القهوة قبل المباراة قد يتحول إلى كابوس في الأمعاء والقولون، بينما العلكة تنزلق كالحلم، لا تترك وراءها إلا نكهة النصر، وهذا بالضبط ما جعل لودوفيك راشو، الشاب الفرنسي الطموح، يُطلق مشروعه السحري، علكة الكافيين “وان جوم” عام 2013.

“هل تتخيل عالماً يُستدعى فيه البديل من المقعد ليدخل المباراة وفي فمه قطعة سحر تُعيد له شبابه؟” 
آدم فيلد، لمجلة ذي أثليتيك.

تخيل شاباً حديث التخرج من كلية التجارة، يجلس في مقهى باريسي صغير، حين يهمس له صديقه: “الجيش الأمريكي يصنع علكةً للجنود ليبقوا مستيقظين 48 ساعة”، في تلك اللحظة، تتولد في ذهنه الفكرة الفكرة؛ فرنسا، ثاني أكبر مستهلك للعلكة في العالم بعد أمريكا، وأرض “ريد بول” المقدسة، وربما كانت تنتظر ملكاً جديداً، علكة تحتوي على النيكوتين، كان راشو يجوب محطات الوقود الفرنسية كتاجر أحلام، يعرض علكته السحرية على سائقي السيارات المتعبين، كانت بداية متواضعة حقًا، لكن القدر كان يحيك خيوطاً أخرى، وبدون أن يدري، سلّم راشو عينةً لطبيب نادي موناكو الذي كان من رواد المقهى،  ثم فجأة، بدأت الطلبات الغامضة تتدفق عبر موقعه الإلكتروني من بريد إلكتروني يفترض أنه تابع للنادي بشكل رسمي. 

“ظننتها مزحة” يتذكر راشو، “حتى اتصلت بنا موظفة المحاسبة ذات يوم وقالت بصوت جاد: ‘نحتاج فاتورة رسمية’”، كانت تلك المكالمة البسيطة بداية علاقة حب بين علكة راشو وعالم كرة القدم، وفي عام 2015، وهو العام نفسه الذي شهد أول ظهور لـ كيليان مبابي مع الفريق الأول، أصبحت علكة “وان جوم” رسمياً بين أيدي لاعبي نادي موناكو، ثم جاءت الصدمة الكبرى بعد نهائي يورو 2016، عندما خسرت فرنسا أمام البرتغال، “بعد ثلاثة أيام فقط من المباراة” يقول راشو بعينين متسعتين، “تلقينا بريداً من اتحاد الكرة الفرنسي يسأل: أين يمكننا العثور على منتجاتكم؟”، بعدما كشف الطاقم الطبي للفريق أن أحد اللاعبين  أقسم بأن العلكة كانت ستغير نتيجة المباراة لو توفرت لهم، أما الأكثر إثارةً فعلًا أن بعض الأطباء اتصلوا به مرتعبين: “نحتاج  إلى العلكة في هذه المباراة وإلا ستكون النتائج كارثية على الفريق”.

View this post on Instagram A post shared by Rachou Ludovic (@lulurachou)

واليوم، تحولت تلك الفكرة البسيطة إلى سرٍ يتهامس به أكبر نجوم العالم بعدما أصبحت راعيًا رسميا لأندية مثل ريال مدريد وباريس سان جيرمان ومنتخب فرنسا وأربعة أندية بريطانية، أما راشو، ذلك الحالم الذي بدأ من الصفر، فقد أصبح ساحر الملاعب غير الرسمي، لكن بما أن لكل قصة حب ثمنها، والسحر الذي يبدأ بنشوة سريعة، قد ينتهي بأسئلة لا يملك أي منا إجابات لها، وبينما كانت الأقدام الذهبية تمضغ هذه القطع الصغيرة، وتملس الأيادي على الدولارات والأموال الكثيرة، يتساءل البعض: هل نحن أمام ثورة علمية، أم بداية عصر جديد من الإدمان المقنع؟ أو بمعنى آخر، عندما يلتقط المصورون اللحظة التي يرمي فيها النجم علكته قبل دخول الملعب، هل يلتقطون أيضاً لحظة وداعه لبراءته؟ 

 “إنه إدمان بكل ما تحمله الكلمة من معنى”. 
راشو

فبينما تظهر الدراسات، مثل دراسة الدكتور فيلد، أن العلكة التي تحتوي على 200 ملغ من الكافيين تحافظ على سرعة رد الفعل في الأشواط الإضافية، إلا أن هناك ثمناً نفسياً باهظاً، فهي تهيج الأعصاب أيضًا خصوصاً في المواقف العصيبة مثل ركلات الترجيح، أم الدكتور نوتون فيضيف بعداً آخر غريباً في دراسته: “الجينات هي من تقرر علاقتك بالكافيين”، أي أن بعض اللاعبين يحملون جينات تسمى “المستقلب السريع”، وهي المسؤولة عن تحويل الكافيين إلى طاقة خالصة، بينما آخرون،  وهم الأقل حظاً، يحملون جينات “المستقلب البطيء” التي تحول فنجان القهوة الواحد إلى كابوس من التوتر،  المفارقة هنا أن الكافيين يرفع معدل ضربات القلب وضغط الدم، وهذا ما نريده في الملعب، لكنه نفس التأثير الذي يسببه التوتر أيضًا، خاصةً وأن اللاعب الذي يقف مرتعداً في النفق قبل الخروج لملعب ممتلئ، قد لا يحتاج إلى الكافيين أبداً، وجسده ينتج المنشطات الطبيعية بالفعل، وفي النهاية، تبقى هذه القطع الصغيرة لغزاً يحير العلماء،  بين يديك قد تكون مفتاح النصر، أو مجرد وهم جميل. 

القهوة المُرّة

في شتاء عام 2020، كان أنتوني روبنسون على بعد خطوة واحدة من تحقيق حلمه بالانتقال إلى نادي ميلان، لكن الفحوصات الطبية كشفت مفاجأة قاسية، اضطراباً واضحًا في نظم قلبه، أراد النادي الإيطالي مزيداً من الوقت للتحقق، لكن ساعة سوق الانتقالات كانت تدق بلا رحمة. وهكذا انهار الحلم كما تنهار رغوة الإسبريسو تحت المطر. “كان الأمر غريباً” يتذكر روبنسون في حديثه لصحيفة “ذي أثليتيك” ويقول: “لم أشعر بأي أعراض، لكن الأطباء وجدوا شيئاً ما”. وبينما كان ينتظر عملية مقررة، جاءت جائحة كوفيد-19 لتعيد كتابة السيناريو مرةً أخرى، وعندما عاد لإجراء الفحوصات بعد أشهر، كانت المفاجأة: القلب عاد طبيعياً، فما الذي حدث؟ بالطبع كما توقعت، يبدو أن الكافيين كان الجاني، حيث كان الظهير الأيسر يتناول جرعات منشطة قبل المباريات، وتوقف عنها أثناء الإغلاق، ما أعاد قلبه لطبيعته. 

قصة روبنسون ليست سوى جزء بسيط من المعضلة، فبينما يبحث اللاعبون عن ذروة أدائهم، ينسون أن الكافيين يختبئ في أجسادهم لساعات، ورغم أن الباحثين يختلفون حول مدة بقائه (من 3 إلى 9 ساعات)، لكن الجميع يتفقون على شيء واحد: توقيته يصبح لعنة للاعبي المباريات المسائية، لأنها تخرب الساعة البيولوجية والنوم العميق، المفارقة هنا، وبرغم كونها مدمرة للصحة، إلا أنها تصبح المنقذ في أيام التدريب المسائي، وفي ليالي المباريات، ولذلك يقبل الجميع التضحية بالنوم كجزء من المهنة، وهنا ننتقل للفكرة الأخيرة: لماذا نحتاج إلى الكافيين أصلًا؟ 

 “سيشكون من الأرق حتى الرابعة صباحا، لكن المباراة أهم”. 
أحد مدربي الدوري الإنجليزي رفض ذكر اسمه لمجلة “ذي أثليتيك”.

آنا ويست، خبيرة النوم التي تعمل مع أندية النخبة، طرحت هذا السؤال سابقًا، وكانت إجابتها صادمة،  إجابة تكشف مأساة كرة القدم الحديثة: “لأن الجدول الزمني لا يتوافق مع فسيولوجيا الإنسان”. ما يعني أن اللاعبين يقعون في حلقة مفرغة: الكافيين يسبب الجفاف، الجفاف يقلل الميلاتونين، قلة الميلاتونين تفسد النوم، قد تغفو، لكن جودة النوم، خاصة المراحل العميقة الأساسية للتعافي ستتدمر، ما يعني أنك ستصبح لاعبًا أفضل لحظيًا، وإنسانًا أقل صحة في العموم، ومع الوقت، ستخسر صحتك، وتخسر جودتك، وربما تخسر وظيفتك أيضًا، وفي عالم يتسارع بإيقاع متهور، أصبح اللاعبون ضحايا نظام يدفعهم لاختيار بين أداء اليوم وتعافي الغد، ولذلك أيضًا ربما تكون قصة روبنسون تحذيراً لمن يسعون وراء “الحل السريع”، فكما انهار حلم انتقاله بين عشية وضحاها، قد تنهار القوة المستعارة من العلكة والقهوة، تاركة خلفها قلباً متعباً ولياليَ بلا نوم.

من بيب جوارديولا إلى أليكسا.. حان وقت استبدال المدربين بالذكاء الاصطناعي


في زوايا الملاعب المضيئة، حيث تُباع الأحلام بأرقامٍ فلكية، يتحول اللاعبون إلى عُملاتٍ حية في سوق المكاسب الرأسمالي، والكافيين لم يعد مجرد منشط، بل أصبح الوقود السري الذي يحرك آلة الأرباح الضخمة، الأندية تطلب المزيد، الجماهير تتوق للإثارة، والشركات تبيع الوهم في عُلبٍ ملونة. والضحية؟ أجساد اللاعبين التي تتحول إلى ساحات معركة بين الطموح التجاري والحدود البيولوجية، المفارقة القاسية تكمن في أن النظام نفسه الذي يُجبر اللاعبين على تعاطي الكافيين لمواكبة الجدول المجنون، مباراة كل ثلاثة أيام، سفرٌ متواصل، ضغوطٌ لا تنتهي، هو نفسه الذي يعاقبهم عندما تنهار صحتهم، بينما يهمس الأطباء في غرف العلاج: “هذا الجسد لم يُخلق ليعمل كآلة”. 

وعندما تُقاس القيمة بالأرقام فقط، تصبح الصحةُ رفاهية، واللاعبون مجرد وقودٍ لآلة لا تعرف الرحمة، وساعتها تتحول حتى العلكة السحرية التي باعها راشو بمحطات الوقود، إلى جزء من هذه الدائرة، اللاعبون يُجرّبون لأن المنافسة تُلزمهم بذلك، والأندية تسمح لأن النتائج تُبرر الوسيلة، والشركات تستفيد لأن السوق يزداد جشعًا، وفي المنتصف، يقف العلم حائرًا: ينصح بالاعتدال، بينما النظام يصرخ: “المزيد! أسرع! أقوى!” وفي النهاية، السؤال ليس عن متى سيتوقف اللاعبون عن تعاطي الكافيين، بل متى يتوقف النظام عن معاملتهم كسلعٍ قابلة للاستهلاك، فحتّى أقوى المنشطات لا تستطيع تعويض حقيقة واحدة: الجسد البشري ليس آلة،  والأرباح لا تروي عطش التعب.