توتنهام ومانشستر يونايتد: القارة الأوروبية تحتفي بأسوأ بطل!

الحمد لله، انتهى أسوأ نهائي أوروبي حضرته منذ فترة طويلة، إذ جمع بين فريقين يمران بموسم كارثي على المستوى المحلي، فريقين يقبعان في مراكز متأخرة في جدول الدوري الممتاز، حيث يحتل مانشستر يونايتد المركز السادس عشر وتوتنهام المركز السابع عشر، ما يضعهما على مشارف منطقة الهبوط، رغم ذلك، استطاع أحدهما انتزاع لقب أوروبي قبل أرسنال، ثم أصبح بوستيكوجلو مدربا متوجًا ببطولة أوروبية قبل أرتيتا.
كنا، ولازلنا، نرفض بشكل قاطع تضمين أي خطاب ذاتي داخل المقالات، ونتجنب استعمال مفردات مثل “أنا” أو “نحن” إلا في أضيق الظروف، لأن الصحافة كما تعلمناها هي فن قول المعلومة بناءً على المصادر، ليس بموضوعية، فالموضوعية التامة والمكتملة، كما نراها أيضًا، ليست إلا وهم كبير، والتحيز الشخصي سيظل موجودًا لدى الكاتب مهما حاول مواراته عن الأنظار.
ولكننا نحاول نقل المعلومة بتجرد، وباحترام شديد لعقل وقلب المتلقي، فلا نحاول لي عنق الحقائق، ولا التدليس، ونحاول استنباط حقيقة ما بناء على ما تراءى لنا في المصادر، قد ننجح وقد نفشل، ولكننا في النهاية، نحاول.
تلك المقدمة هامة جدًا، لأننا ببساطة سنكسر القاعدة هذه المرة، وسأبدأ أنا الآن في وصف المشاعر التي انتابتني شخصيًا أثناء متابعة المباراة، لن أتخلى عن المهنية تمامًا بكل تأكيد، ولكن الصراحة أنني تخلل إلى أعماقي مشاعر هجينة بين الملل والشعور بالرداءة أثناء الفرجة، انتابتني مشاعر صلاح عبد الصبور في أغمق قصائده: “هذا زمن لا يعرف فيه مقتول من قاتله، هذا زمن الحق الضائع”، أو ببساطة أكبر؛ هذا زمن اللعبة الضائعة.
خاصة بعد أن كنا أمام مباراة مملة، استطاع فيها توتنهام اقتناص الفوز بهدف وحيد، والحمد لله الذي جعل المباراة تنتهي، دون أن نضطر للجوء إلى الوقت الإضافي حفاظًا على ما تبقى من قوانا العقلية.
السقوط في بئر ضحك
المباراة كانت مثالًا صارخًا لتراجع فني وتكتيكي يجسد أزمة الفريقين في أسوأ حالاتهما. الضغط الهائل على المدافعين جعلهم يلقون بالكرة طويلة بعشوائية نحو مهاجم وحيد، يخسرها بدوره بسهولة أمام دفاع متراص، لتعود الكرة إلى وسط الملعب، ثم نبدأ من جديد، في دائرة مُفرغة ومفزعة من الفشل، لا هدوء في البنية أو أثناء البناء، ولا خطة لكسر الحصار، وكل ما يحدث هو كرة طويلة تلو الأخرى، تضيع بين الأرجل، وتنتهي إما بتسلل خاطئ أو عرضية عشوائية لا يجيد أحد استثمارها أو اقتناصها بأي شكل.
المشهد الأكثر إيلامًا أن هذه الكرة الطويلة العشوائية لم تكن سوى انعكاس لواقع الفريقين المزري، مع عدم قدرة على البناء من الخلف، وفقدان تام للثقة بين اللاعبين، وخوف مرعب من الخطأ يجعلهم يتجنبون أي مجازفة إبداعية، والنتيجة: مباراة تختلط فيها الكرة السماوية بالأرضية في فوضى لا معنى لها، وجمهور يتساءل: هل هذه هي كرة القدم التي أحببناها؟ أم أننا نشاهد محاولة لإقناعنا بأن الرداءة قد تصبح فنًا؟
وكما تعرف، فعندما تسود الصورة تمامًا، نلجأ إلى الكوميديا، مثلما قال الشاعر الإيطالي دانتي أليجييري، ولذلك أيضًا حاولنا إلقاء نظرة على تعليقات الجمهور على السوشيال ميديا بعد انتهاء المباراة، لنفاجأ بالتالي:
المنشور السابق كان قبل المباراة بساعات، وكأن القائمين على الصفحة كان لديهم هذا الانطباع الأولي، أما القادم، فقد نشر بعد إنتهاء المباراة مباشرةً، في سخرية من المباراة، وسخرية أو دعنا نقول: إشفاق على حال أرسنال أيضًا الذي صرف ما يقرب من 790 مليون يورو منذ مجئ أرتيتا، ودون بطولة واحدة فقط.
🚨🚨🚨🚨🚨 هتاف جماهير توتنهام:
“أرسنال، هل تشاهدون ذلك؟” pic.twitter.com/GCylCqhli6— الدوري الإنجليزي™ (@TrendEPL) May 21, 2025
وبالطبع لم تنس الجماهير إعادة النظر في وضع هاري كين أيضًا، الذي رافق السبيرز سنوات طويلة دون بطولة واحدة، وبعد رحيله بعام واحد، استطاع الفريق اقتناص بطولة أوروبية يشار إليها بالبنان، أو بأشياء أخرى، ولله في خلقه شؤون.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة 365Scoresarabic (@365scoresarabic)
وحتى لا يكون الضحك من أجل الضحك، حاول ديفيد كارتيليج، المحرر في ESPN، أن يفكك الأمر بشكل منطقي فقال أن مانشستر يونايتد أهدر فرصةً أوروبيةً تاريخيةً بأداءٍ باهتٍ لا يعكس مكانة النادي، حيث قدَّم الفريق عرضًا دفاعيًّا مُمِلًّا بلا رؤية هجومية، واعتمد على تمريراتٍ جانبيةٍ لا طائل منها وكراتٍ طويلةٍ عشوائيةٍ نحو لاعبي الوسط، دون أي محاولةٍ جادةٍ لاختراق الخصم.
وعندما فشلت هذه الخطة الصادمة، لجأوا إلى دفع هاري ماجواير للأمام كحلٍ يائس، وكأنهم يعلنون للعالم أن هذا كل ما في جعبتهم، ليُختتم المشهد بفريقٍ لا يُجيد الدفاع رغم ادعائه، ولا الهجوم رغم إمكانياته.
جفاف توتنهام
“عادةً ما أفوز بالبطولات في موسمي الثاني”.
أنجي بوستيكوجلو.
رغم الفوز باللقب، لا يُمكن إغفال حقيقة أن أداء توتنهام في البطولة كان مُخيبًا للآمال، بل وسخيفًا في الكثير من اللحظات، أنجي بوستيكوجلو، الذي يُحتمل أن تكون هذه مباراته ما قبل الأخيرة كمدرب، قدَّم خطةً تكتيكيةً أشبه بالفوضى والعشوائية، تعتمد على كرات طويلة بلا معنى، وتمريرات جانبية تُكرِّس انعدام الرؤية الهجومية، النصر هنا لم يكن ثمرةَ إستراتيجيةٍ مُحكمة، بل محصلة أخطاء الخصم وبعض الحظ العابر.
هذا الفريق الذي فشل في تحقيق أي شيء مُهم في الدوري، ويتربع الآن في المركز السابع عشر، كشف عن عجزه حتى في المباراة النهائية، حتى سون هيونج مين، ظهر كشبح للنجم الذي كان عليه، بينما تحوَّل فان دي فين إلى رمزٍ للفوضى الدفاعية، حيثُ كانت تدخلاته أشبه بمحاولات يائسة لإخفاء عيوب خططه، حتى التشكيل الشاب الذي يُتغنى به مثل أرتشي جراي (19 عامًا)، ومايكي مور (17 عامًا)، لم يُقدِّم سوى أداءً هشًّا، يُذكِّر بأن الاعتماد على صغار السن دون خطة تطوير واضحة هو مجرد مقامرة بلا ضمانات.
المفارقة الأكبر أن هذا الفريق، الذي عجز عن تنفيذ أبسط الأساسيات طوال الموسم، سيشارك في دوري أبطال أوروبا الموسم القادم، الأمر الذي لا يعكس إلا تشوُّهات النظام الرياضي الذي يكافئ الفشل إذا اقترن بعلاقاتٍ جيدة أو أموالٍ طائلة، حتى “التحفة التاريخية” التي يتحدثون عنها، أول لقب منذ 17 عامًا، تبدو كـترقيعٍ لإخفاء الكارثة القادمة لا محالة: مدرب على وشك الرحيل، شباب غير جاهزين، وغياب تام لرؤيةٍ رياضية، نعم، الفوز باللقب مذاقه حلو في فم الجماهير، لكن مرٌّ حين تُدرك أن هذه “المعجزة” ليست إلا مجرد غطاءٍ لتراكم الأزمات.
عرض هذا المنشور على Instagram تمت مشاركة منشور بواسطة 365Scoresarabic (@365scoresarabic)
أزمة مصيرية
مانشستر يونايتد، الفريق الذي تحوَّل إلى ظلٍّ باهتٍ لنفسه منذ أكثر من عقد، ينهي أسوأ موسم في تاريخه الحديث بكارثةٍ تُذكِّرُ بهبوطه المُذل من الدرجة الأولى عام ١٩٧٤، رغم بقائه “فريقًا جماهيريًّا” بلا سببٍ واضح، إلَّا أن الحقائق تُثبت أن النادي فقدَ مكانته كعملاقٍ منذ زمنٍ طويل، والجميع رأى الكارثة قادمة: فِرَقٌ لا تملك عشر ميزانيته تُهينه في الدوري، ومُشجعون يُغادرون المدرجات قبل نهاية المباريات، وإدارة عاجزة تُكرر أخطاء الماضي، ووسط تلك الحالة الميئوس منها، ظهر روبن أموريم في الأفق.
روبِن أموريم، المدرب الذي رفضَ المهمة في البداية، وجد نفسه في فخٍّ لم يصنعه بنفسه، فلسفته الفنية العالية، التي تحتاج إلى لاعبين أذكياء ومُنسجمين، اصطدمت بواقعِ فريقٍ عشوائي، وخاوٍ تكتيكيًّا.
صحيح أن أموريم لا يتحمل وحده اللوم أبدًا، فالإدارة الفوضوية وغياب الرؤية الرياضية هما الجاني الأكبر، لكن حتى مؤيدوه بدأوا يشككون في قدرته على إنقاذ سفينةٍ تغرق منذ سنوات، الأسوأ أن أموريم نفسه اعترف بأن الهزيمة في النهائي تعني أن الفريق يجب أن يكون “مثاليًّا” بدءًا من الموسم المقبل، لكن كيف يُطلب الكمال من فريقٍ فشل في تحقيق الأساسيات لسنوات طويلة؟ كيف تُصلح إدارةٌ منهكة ثقافةَ نادٍ تحوَّل إلى مسخٍ تجاريٍ بلا روح؟
وسقطت العباءة
دعنا لا نكذب على أنفسنا أكثر من ذلك، كرة القدم الأوروبية تختبئ وراء وهم البطولات الفاخرة، بينما تقدم أندية كبيرة مثل مانشستر يونايتد كرة هزلية تستحق الضرب بالمراكيب، فهل من المعقول أن تحافظ الفرق على مكانتها في المسابقات الكبرى رغم عجزها عن البناء طوال تلك السنوات؟ أم أن الأمر أصبح مجرد محاباة لصالح الأقوى ماليًّا؟ المشهد الأكثر إثارة للغضب أن الجماهير مازالت تدفع مبالغ خيالية لمشاهدة مثل تلك العروض السيئة، بينما تتراكم الأرباح في جيوب الملاك، دون أي محاولة لإصلاح الخطة أو الاعتذار عن الفشل.
والمشكلة ليست في فريق واحد، بل في النظام نفسه، الذي يكرس الهيمنة المالية على حساب الجوهر الرياضي، حيث أن نهاية الدوري الأوروبي بين فريقين متداعيين مثل توتنهام ومانشستر يونايتد ليس سوى نتيجة طبيعية لسوق تسوده الفوضى، تصبح فيه الأسماء الكبيرة والشراكات العالمية هي البطل الرئيسي، بدلًا من المهارة أو العروض المثيرة. إذا كانت تلك هي صورة كرة القدم الأوروبية اليوم، أندية تتفنن في الفشل وتُكافأ بالألقاب، وجماهير تُستنزف ماليًّا، فماذا سنشهد في المستقبل؟ بطولات تُمنح بالورقة والقلم؟ أم مباريات بدون جمهور؟
تلك هي الأزمة التي تُجسِّدها كرة القدم الأوروبية، نموذجًا مُصغرًا لانحراف الرياضة عن جوهرها الإنساني، حيثُ تحوَّلت الملاعب إلى بورصات مالية تُدار من خلف الكواليس بواسطة صناديق الاستثمار وشركات الاحتكار، ولم يعد الفوز بالبطولات مرتبطًا بالبراعة التكتيكية أو الروح الجماعية، بل بقدرة الأندية على استقطاب الرعَاة وبيع حقوق البث بمليارات الدولارات، حتى الأندية “العريقة” صارت تُشبه متاجرَ للترفيه، تُقدِّم عروضًا مُتكلفة، بينما تُهمل بناء الفرق أو تطوير المواهب، والتداعيات، بالطبع، لا تقتصر على أوروبا وحدها.
فسياسات الفيفا والأندية الثرية تُعيد تشكيل خريطة الكرة العالمية لصالح نخبةٍ ضيقة، مُهمِّشةً دور الأندية الصغيرة، ومع استمرار تلك الآلة الجشعة، شهدنا جميعًا اختفاءَ روح المفاجأة التي ميزت كرة القدم، وهيمنت نفس الأندية على كل البطولات، كما أصبح التأهل إلى النهائيات مجرد “حقٍّ مكتسب” لمن يملك المال، الأسوأ أن الجماهير تحولت إلى مجرد مُستهلكين سلبيين لمحتوىً رياضيٍ مُعلَّب، بينما تُسرق منهم فرصة بناء هوية رياضية حقيقية، وإذا كانت هذه هي الصورة، فربما يأتي اليوم الذي تُحذف فيه الكرة من اسم “كرة القدم”، لتصبح مجرد “مزادٍ علني” تتنافس فيه الأرقام، لا المواهب.