رسالة إلى هانز فليك: هل تؤمن بوجود الأمل بعد الدقيقة 19؟

هدفان لريال مدريد في 9 دقائق فقط، نزلوا كطشت ماء بارد على رأس السيد هانزي فليك، أشعة الشمس بدأت في الذبول، وموسم الثلاثية التاريخية انهار فجأة خاصة بعد فقدانه دوري الأبطال أيضًا أمام إنتر ميلان قبل أيام قليلة، وكل أعدائك كسروك يا هانزي، أحدقوا بك من كل الجهات، ونكسوك عن جوادك، وأثخنوك بالجراح، ولم يبق لك ناصر، وأنت محتسب صابر، فهويت إلى الأرض جريحًا، تطؤك الخيول بحوافرها، أو تعلوك الطغاة ببواترها.
الغريب، أن كل ذلك حدث في عشر دقائق فقط، حدث في طرفة عين، وفي غفلة من الجميع، عشر دقائق فقط، صُدم فيها السيد هانزي فليك كما لم يصدم في حياته من قبل، فعندما يكون المستقبل بأكمله واقفًا على نصلِ شَعرة، ومباراة واحدة تكون هي الفاصلة بين الليل والنهار، تصبح القسمة كلها قسمةٌ ضيزى.
سرعة التجاوز
لقد تحدثنا عن ذلك مسبقًا أكثر من مرة، وإن كنت متابعًا جيدًا لما نكتبه هنا عادةً، فبالتأكيد أنت تعرف “مراحل الصدمة الخمسة” التي طورتها الباحثة في علم النفس ﻛوﺑﻠر روس: الإنكار، والغضب، والمساومة، والاكتئاب، والقبول، بحسب ما ذكرته الباحثة، فتلك المراحل عادةً ما تأخذ وقتًا كافيًا حتى تنضج وتتكيف، لكن ما حدث لهانزي فليك دمر بعض المعتقدات، حيث كان ذلك الاختبار اختبارًا حقيقيًّا ومُكثَّفًا لهذه المراحل، اختبار مر فيه الرجل وتجاوزه في وقتٍ قياسي لم يتعدى الخمس دقائق.
الإنكار: صُدم فليك للحظة، وحدّق في الشباك كما لو أن الأهداف لم تُسجَّل، لكن هذه المرحلة لم تستغرق أكثر من نَفَسٍ واحد فقط، هزّ رأسه بسرعة، وصرخ في لاعبيه: “هيا، اتركوا الماضي، وانظروا إلى المستقبل”.
الغضب: ظهرت نظرة حادة في عينيه، تلك النظرة الألمانية المرعبة، لكنها تحوّلت سريعًا إلى إشارات يده السريعة نحو بيدري ودي يونج لإعادة التنظيم، لم يضيّع وقتًا في الصراخ بلا طائل، بل حوّل الغضب إلى أوامر عملية.
المساومة: وبدلًا من التمني المستحيل، أدار عجلة التغيير فورًا، أشار إلى بيدري للضغط على بيلينجهام، وافتكاك الكرة في مناطق أعلى، وضغط على خط الوسط لسد الثغرات، لم يساوم مع القدر، بل فرض إرادته على الواقع.
الاكتئاب: ظهرت عليه لثانيةٍ واحدةٍ علامات الإرهاق، لكنه التقط زجاجة الماء وارتشفها بعمق وبطء، كأنه يغسل اليأس الطاغي، ثم نظر إلى ساعته وابتسم ابتسامةً قصيرةً، وغير معهودة لأنها كانت تُخفي تحديًا جديدًا: “لا يزال الوقت كافيًا”.
القبول: وبحلول الدقيقة ١٥، كان قد رسم خطة جديدة على ورقة، وألقاها إلى مساعديه، لم يقبل الهزيمة، بل تقبَّل الواقع كمنصةٍ للانطلاق والمروق كالسهم إلى قلب مدريد، وبعد خمس دقائق فقط من هدف مدريد الثاني، كان قد استعاد عافيته كاملةً، مقامرًا بكل ما يملك من أجل لحظة جنون واحدة، هدف الأول للفريق في الدقيقة 19، أتبعه الثاني بعد خمس دقائق، ثم الثالث والرابع، لينتهي الشوط الأول بانتصار كتالوني كاسح.
أن تكون تحت الأنقاض لا يعني بالضرورة أنك منهزم أو مكسور، فربما تكون تلك اللحظة تحديدًا هي بداية البناء، نعم؛ فما فعله فليك كان أشبه بمعجزة إدارية، قيست فيها القيادة بسرعة الاستجابة والتصرف الحكيم، كما حوّل كارثة الهدفين إلى فرصةٍ لإثبات نفسه أمام الجميع، وأن الأزمات قد تدمر بعض الوقت، ولكنها تصنع القادة أيضًا.
ولذلك لم ينتظر الرجل حتى نهاية الشوط الأول ليصعد إلى السطح من جديد، بل حوّل الصدمة إلى وقودٍ للعبور من الضغط، وبينما كان الجميع يتحدثون عن “انهيار برشلونة”، كان يكتب هو فصلًا جديدًا في سجل الكلاسيكو، استقبل فيه ريال مدريد أربعة أهداف في شوط واحد لأول مرة منذ مايو 2006، لماذا حدث ذلك؟ حسنًا، لأن فليك آمن من كل قلبه، وبكل جوارحه، أن الحياة الحقيقية قد تبدأ بعد الدقيقة 19، وأن هدف واحد من “اريك جارسيا” مثل شربة الماء في صحراء قاحلة، ما قبلها ليس كما بعدها أبدًا.
الحياة بعد الدقيقة 19
“أريد إثارة، أريد متعة، أريد أن أظل على طرف مقعدي طوال المباراة”.. أليكس فيرجسون متحدثًا عن الغرض الرئيسي من اللعبة.
يُوصف أسلوب برشلونة تحت قيادة هانزي فليك بأنه الأكثر شمولية في أوروبا بأكملها، لأنه ببساطة يصك في جوهره فلسفة كروية تجمع بين الإبداع والانضباط، فمن جهة الفريق لا يخشى المغامرة فعلًا، لكنه يفعل ذلك بخطة ونهج مدروس: هجومٌ شرس يعتمد على التمريرات المباشرة خلف الدفاعات، وضغطٌ عالٍ يحوّل كل فرصة إلى تهديد مباشر، وبالطبع فهذه الرؤية الهجومية لا تعني إهمال التوازن، بل تُنتج مزيجاً فريداً بين العفوية والتنظيم، حيثُ تتحول المباراة إلى حوارٍ تكتيكي ديناميكي.
والأرقام تتحدث عن نفسها: 167 هدفًا في 57 مباراة، منها 16 هدفًا كاملًا في مباريات الكلاسيكو، تُثبت فعلًا أن المخاطرة مُجدية، لكن المُفارقة تكمن في أن هذا الفريق “الهجومي” والمباشر أيضًا، يحتفظ بأعلى نسبة استحواذ في أوروبا (69%)، بفضل ثنائي الوسط فرينكي دي يونج وبيدري، والموهبة البديعة لامين يامال، اللذَين يجسدان المعادلة الصعبة: رؤيةٌ إبداعية لاختراق الخطوط، وقدرةٌ استثنائية على استعادة الكرة وإدارة الإيقاع.
السرّ الآخر يكمن في الجانب الدفاعي الخفي، حيث أن فلسفة فليك لا تقتصر على الهجوم فقط، بل تعتمد على خنق الخصم في منطقته عبر ضغطٍ قوي، سواءً أثناء الاستحواذ أو عند التحول الدفاعي، وبالطبع فهذا النهج الوقائي يُنتج موجات هجومية متتالية، حيثُ تتحول فترات الاستحواذ الطويلة إلى سلسلة من التمريرات الكاسرة للخطوط والحركات الذكية، بدلًا من التدوير الرتيب والممل للكرة بلا طائل حقيقي.
أما المغامرة الأكثر لفتًا للانتباه فهي “مصيدة التسلل”، وقد تحدثنا عنها مسبقًا أيضًا نظرًا لكفائتها العالية، والتي تُجبر المنافس على الخروج من منطقته، مُعرّضًا نفسه لهجمات مرتدة سريعة، ما يجعلها سلاحًا استباقيًا يضمن استمرار السيطرة، ويعيد الكرة إلى قدميْ برشلونة في أغلب الأحيان، هكذا بدت الحياة بعد الدقيقة 19 ودون الدخول في تفاصيل أكثر، هكذا يصنع فليك كرة قدمٍ مختلفة: لا تختار بين الهجوم والدفاع، بل تدمجهما في رقصة واحدة، هل تتذكر رقصة مارلون براندو الشهيرة في فيلم “last tango in paris”، قد تبدو فوضوية للوهلة الأولى، لكنك لو ركزت قليلًا، ستكتشف أن إيقاعها محسوب بدقة.
نحن نحب الحياة
ما يقدمه هانز فليك مع برشلونة ليس مجرد تكتيكٍ جديد، بل هو ثورة جمالية تُعيد تعريف علاقة الجمهور بكرة القدم، وفي عصرٍ يغلب عليه الروتين التكتيكي والنتائج المُحتسبة بمنطق الآلة، يأتي أسلوب الفريق الكتالوني كـ عاصفة مُبتكرة؛ مباريات تشبه الأفلام التفاعلية، حيثُ تُصبح كل لمسة كرة “إختيارًا” قد يُغير مسار اللعبة، الفريق لا يلعب ليفوز فحسب، بل ليُذهل، ليُقلق راحة الخصوم، وليجعل المشاهد ممسكًا بقلبه وجالسًا على طرف كرسيه من شدة الإثارة، ثم يبتسم رغم ذلك.
وهذه، كما تعرف، ليست كرة القدم التقليدية التي نعرفها، بل مزيجٌ من الذكاء الاصطناعي والعبقرية البشرية، حيث تُحلل خوارزميات فليك نقاط ضعف الخصم في ثوانٍ، لكن التنفيذ يبقى بشريّاً خالصاً: تمريرة من بيدري تُحاكي دقة روبوت مذهل، لكنها تحمل روحَ فنان عابث مجنون، ولذلك فالأهداف هنا ليست أرقاماً، بل ريلز متحركة تُناسب جيل “التيك توك” الملول، لها طعم وإثارة الريلز، فكل ثانية حكاية: ضغطٌ عالٍ يُشبه الإشعارات التي تتفجر على شاشة الهاتف كل لحظة، وتمريراتٌ طويلةٌ تختصر الزمن كأفضل ميزات الـ “Streaming”، كل شئ سريع جدًا، ولكنه في نفس الوقت، دقيق جدًا جدًا.
ولذلك فحتى الخسارة تكون فشلاً جميلاً، هو الفشل الذي يجعلك تُعيد مشاهدة المباراة مرتين، لأن فليك حوّل الملعب إلى مختبرٍ للدهشة، لاعبوه لا يخشون الخطأ، لأن الروح الهجومية والمبادرة مقدمة على كل شئ، وبالضبط هذا هو ما يحتاجه عصرٌ يبحث عن الإثارة والحيوية، إثارة لا تُفلتر بواسطة التحليلات المملة، فعندما يهاجم برشلونة، تشعر أنك تشاهد تحديثًا حيّاً لكرة القدم، نسخةٌ أكثر ذكاءً، وجنونية، واستثنائية.
برشلونة فليك ليس فريقاً، بل ظاهرة ثقافية تجسد تناقض العصر الحديث: دقة التكنولوجيا مع فوضى الإبداع، السرعة الرقمية مع العمق الإنساني، فحتى لو خسروا، يتركون وراءهم أسئلةً تُحفز العقل: ماذا لو حدث؟ وكيف سيُهاجمون في المرة القادمة؟ وكيف سأجلس على طرف الكرسي في المرة القادمة دون أن أسقط؟ تلك الأسئلة وحدها هي ما يجعلك تُتابعهم، لأنهم ببساطة، الفريق الوحيد تقريبًا الذي يجرم الملل، ويؤمن بالحياة، ويستطيع إليها سبيلا، قبل الدقيقة 19، وبعدها، وفي كل وقت من المباراة.