أمريكا وكرة القدم: ما سبب استضافتها لكأس العالم للأندية والمنتخبات في الوقت نفسه؟

في عام 2016 نشر رود خوليت كتابه الأشهر “كيف تشاهد كرة القدم” في 256 صفحة، وبغض النظر عن انه لا يعرف كيف يشاهد هو شخصيًا كرة القدم ليتحفنا بآرائه، وبغض النظر عن انه لم يقل جملة واحدة مفيدة، ولم يتحدث في كرة القدم أصلًا، إلا ان الكتاب أثار ضجة كبيرة، ليس بسبب جودته، بل بسبب اختلاف تسميته، حيث انتشر في دول العالم تحت اسم (How To Watch Football)، إلا في الولايات المتحدة الأميركية فقط، كانت لها نسخة خاصة تحت اسم (How to watch soccer).
هذا الاختلاف في التسمية لم يكن تنازلًا تسويقيًا فقط، بل هو مؤشرٌ صارخ على هيمنة ثقافية تفرضُ مصطلحاتها حتى على لغاتِ الشعوبِ الأصلية، فبينما يُسمّي العالمُ اللعبةَ “فوتبول” كإرث تاريخي إنجليزي يجسّد روح الرياضةِ التي نتبتت في رحم القارة العجوز، تصرُّ أميركا على تسميتها “سوكر”، وهي تسميةٌ مبتذلةٌ مشتقةٌ اختصارًا من (Association Football)، وكأنها تعيدُ كتابة تاريخ اللعبة بلهجتها الخاصة.
في هذه التسميةِ المفروضةِ قسرًا، نرى وجهاً آخرَ لـ”الأمركة” القسرية لكل المعاني والأشياء حتى تشد على مقاس الولايات المتحدة المشدود، ونرى تسليمًا بأن مركز ثقل الرياضة العالميّةِ قد ينتقلَ من ملاعبِ أوروبا إلى أبراجِ الشركاتِ في نيويورك، ومع احتضانها كأس العالم للأندية 2025، ثم كأس العالم للمنتخبات 2026، يظل السؤال قائمًا: كيف انقلبت كرة القدم من رياضةٍ مُهمَّشةٍ في الوعي الأميركي، إلى إستضافة الحدثين الأضخم تواليًا خلال عامٍ واحد، وكيف حدث الغزو الأميركي الناعم للعبة؟
تفرقة هامة
لفهم كيف انتشرت اللعبة في أميركا حتى الوصول لمونديال الأندية، يجب ابتداءً تعريف (اللعبة) التي نتحدث عنها، في القرن الثامن عشر، كانت كرةُ القدم تُلعب في معظم المدارس العامة في إنجلترا، لكنها كانت لعبةً قاسيةً للغاية، تتمتع بقدرٍ كبير من العنفِ الجسدي، في الواقع كان يمكنك أن تفعل أيَّ شيءٍ أقلَّ من القتل للحصول على الكرة.
طريقةٌ في اللعب قد تعجب المخرج الأميركي الشهير “كوينتن تارانتينو“، حواراتٌ مربكة، الكثير من الدماء، أشلاء متطايرة هنا وهناك، ونهايات سوداوية، وهذا بالضبط ما يمكن إسقاطه على كرة القدم في تلك الفترة، لعبةٌ عنيفةٌ وغيرُ مأمونةِ الجانب، تخلّف وراءها الكثيرَ من الضحايا، سواء بالإصابات الخطيرة، أو بالوفاة في بعض الأحيان، والأهم أنها كانت تستخدم اليدين أيضًا، ولذلك كان لابد من إعادة تنظيم اللعبة مرة أخرى حتى تناسب الجميع، خاصة وأنها انتشرت بكثرة بين طبقة الأرستقراطيين الإنجليز ورواد بعض المدارس مثل “إتون” و”رجبي.
كانت كلُّ واحدةٍ من تلك المدارس تضع قواعدَها الخاصة وتعتمدُ على مفهومها في اللعب، مثلًا: تركزت كرةُ القدم في “شروزبري” و”وينشستر” و”شارتر-هاوس” على المراوغات مع الاهتمام بسرعةِ ودقةِ التسديد، وذلك نظرًا لأن الطلاب كانوا يمارسون اللعبة داخل أروقة دير “كارثوزيان” القديم مع مساحةِ لعبٍ محدودةٍ للغاية، لذا كان من المنطقيِّ أن يعتمدَ اللاعبون المراوغةَ كخيارٍ أوَّل، في حين أن مدارس مثل: “إيتون” و”هارو” كانت لديها ملاعبٌ كبيرة لدرجة أنها طورت لعبة تتضمن ركلَ الكرةِ لمسافات طويلة.
وهذا بالطبع ما أثر على فكرة المتعة، لذا قرر القائمون على اللعبة عقدَ ذلك الاجتماع في كامبريدج للتوصل إلى حلٍ وسط يجعل للعبةِ مفهومًا أكثرَ جاذبية. ومن هذا المنطلق ظهر مصطلح: “قواعد كامبريدج” للمرة الأولى؛ وهي مجموعةٌ من 11 قاعدة يمكن للجميع الاتفاق عليها، وبعد ذلك تطور الأمر، تحديدًا ليلة السادس والعشرين من أكتوبر لعام ١٨٦٣م، حين اجتمع ممثلو المدارس في حانة “هولبورن” لإنشاء اتحاد كرة القدم (Football Association)، مع تضمن المسودة الأصلية للاتحاد 23 قانونًا تتبناها الفرق الأعضاء.
أهم تلك القوانين كان عدم استخدام الأيدي أثناء اللعب، بعدها بسنوات، تحديدًا في عام 1871 اجتمعت مجموعة أخرى في لندن لوضع قواعد لعبة مشابهة لحد كبير، الفارق الوحيد أنها سمحت باستخدام الأيدي، ونُسبت وقتها لمدرسة “رجبي” الثانوية بلندن، ومن هنا نشأ اسم (Rugby Football)، أي أننا الآن أمام لعبتين مختلفتين، لعبة لا تستخدم الأيدي وتسمى “كرة القدم”، ولعبة تستخدم الأيدي وتسمى “الرجبي”، تلك التي تطورت بعد ذلك لتصبح “كرة القدم الأميركية”، جيد جدًا، وما المشكلة في ذلك؟
المشكلة هي أن طلاب جامعة أكسفورد، تحديدًا، طوروا عادةً لغويةً غريبةً: اختصار الكلمات الرسمية الطويلة إلى عامية، بقطع أول أحرف منها، وإلحاق “er” بنهايتها، فـ”Rugby” صارت “Rugger”، و”Association” قُصِرت إلى “Assoc-er” ثم تحوّلت إلى “Soccer”، الاسمُ الذي ترفضه أوروبا، وتُقدِّسه أميركا.
الغريب أنهم أخذوا تلك الكلمة وألصقوها بكرة القدم، ثم طوروا لعبة الرجبي لتكون هي كرة القدم الأميركية (American football)، وهنا يأتي السؤال المهم: من الذي أوصل اللعبتين لأميركا؟
على الغزو دور
حسنًا، اكتشفت الأرض الجديدة بتاريخ 12 أكتوبر 1492 على يد كريستوفر كولومبوس، ثم جاء الغزو الإنجليزي ليبدأ الحكم البريطاني للمستعمرات شمال وشرق أميركا الشمالية عام 1607، لتبدأ المستعمرات في الانتشار والتشظي، ويأتي الإنجليز بثقافتهم لفرضها على المجتمعات حديثة النشأة، أحد تلك المستعمرات كانت مستعمرة “جيمستاون”، والتي سنبدأ من عندها، لماذا؟ لأنها كانت أول مستعمرة تلمس أراضيها كرة القدم.
حيث ظهرت أشكالٌ بدائيةٌ للعبة تجمع بين الركل والرمي وحمل الكرة، أشبهَ بـلعبة الرجبي السالفة الذكر، ومع صعودها في جامعات النخبة مثل ييل، وهارفارد، وكولومبيا، ووصمت اللعبة بكونها لعبة نخبوية لا تنفع العامة، خاصة بعد أول مباراةٍ جامعيةٍ عام 1827، المفارقةُ أنَّ مباراةَ برينستون × روتجرز، والتي تُعتبر الميلاد الأول للرياضة الجامعية، لُعبت بقواعد إنجليزية خالصة، لكنَّ أمريكا سرعان ما انقلبت على تقاليد “الفوتبول” القديمة، لتصنع من الانشقاقِ قصةَ ولادةِ كرة القدم الأمريكية، كما نعرفها اليوم.
وبحلول بحلول سبعينيات القرن التاسع عشر، انتشرت كرة القدم إلى المجتمعات العاملة، لا سيما في مدينة نيويورك وفيلادلفيا وأجزاء من نيوجيرسي، كما دخلت اللعبة الحديثة البلاد خلال خمسينيات القرن التاسع عشر مع المهاجرين الاسكتلنديين والأيرلنديين والألمان والطليان، وجدت الرياضة الحديثة موطئ قدم قوي بين مجتمعات المهاجرين تحديدًا، وطوال أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أنشأت مجموعات عرقية مختلفة أندية ودوريات لكرة القدم في جميع أنحاء البلاد، وبالتعاليم الإنجليزية نفسها.
قهوة الموت التي يتناولها اللاعبين.. اللاعب رقم 12 في كرة القدم!
وبذلك أصبحت كرة القدم مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالمهاجرين، خاصة مع اكتساب كرة القدم الأميركية الهيمنة الثقافية على الأميركيين الأصليين (أو الغزاة بمعنى أصح)، كما كانت أندية ودوريات كرة القدم العرقية، مثل الدوري الألماني الأمريكي وبروكلين هيسبانو، حاسمة في تعزيز كرة القدم الأمريكية والتنشئة الاجتماعية بين مجموعات المهاجرين، حتى أن المنتخب الوطني الأمريكي الذي شارك في كؤوس العالم المبكرة (1930، 1950) كان يتألف بشكل أساسي من لاعبين بريطانيين واسكتلنديين مُجنسين.
إذن نحن الآن أمام لعبتين، كرة القدم الأميركية، وهي اللعبة الغالبة على الدولة والمعبرة عن المجتمع، وكرة القدم، وهي لعبة المهاجرين، ولكن كل شئ بدأ بالتغير مع دوري أمريكا الشمالية لكرة القدم (NASL) المولود عام 1968 وسط غبار الإهمال، لكنَّه شهد انفجارًا غير مسبوق، وحامل رسالةً جريئة: غزو دولةٍ هيمنَت عليها البيسبول والسلة، ومع وجود الدوري، بدأ استقطاب المواهب العالمية مثل بيليه وبيكنباور وتوريس، هؤلاء تحديدًا نقلوا الدوري من الهامش إلى الواجهة، وانفرط العقد.
حيث شهد الدوري ذروةَ شعبيته أواخر السبعينيات، حيثُ قفزَ متوسطُ الحضورِ إلى 13,000 متفرج للمباراة (1977-1983)، بينما حلقَ نادي كوزموس وحده بمتوسط 25,000 متفرج في الموسم الواحد، ثم بلغت ذروته بـ 40,000 متفرج، وعزّز الدوري نجاحه بأول عقد تلفزيوني عام 1974، بل وعدّل قواعد اللعبة، مثل إدخال ساعة العد التنازلي، لتناسبَ ذوقَ المشاهد الأمريكي المعتاد على إيقاعات البيسبول.
لكنَّ القفزةَ المرتفعةَ لم تراعي الحفرة القادمة، فمع مطلع الثمانينيات، تفكك الدوري تمامًا تحت ثِقل ثلاثة أمراض:
جنون التوسع في مدنٍ بلا جماهير حقيقية.
إغراقُ الفرق في ديونٍ لاستجلاب نجومٍ شاختْ مهاراتُهم.
تحوُّلُ الملاعبِ من ساحاتِ إبهارٍ إلى مسارح لإيقاع بطئ يفتقرُ للحماس.
ورغم ذلك، لم يمتْ إرثُه تمامًا، فشعلتُه، رغم انطفائها عام 1984، أنارتْ طريقَ كرة القدم الأميركية: حوّلت “السوكر” من غريب إلى صديق في البيوت، وزرعتْ حُبَّ اللعبة في جيلٍ كامل، مهدّدةً بذلك هيمنةَ الرياضاتِ التقليدية، وممهّدةً لولادة الدوري الأمريكي الجديد (MLS) كـ”ابن شرعي” لتلك التجربة التاريخية.
الابن الشرعي
عام 1994 لم يكن نقطةَ تحوّلٍ عابرة، بل كان الانفجارَ الكبيرَ الذي ولّدَ مجرةَ كرة القدم الأميركية، فحين استضافت الولايات المتحدة كأس العالم، لم تقتصرِ البطولةُ على كونها حدثًا رياضيًا، بل تحوّلت إلى محرّكٍ تاريخيٍ غيّر مسار اللعبة جذريًا، والمفارقةُ أن شروط الفيفا اشترطت إنشاءَ دوريٍ محترفٍ مقابل الاستضافة، فكانت النتيجةُ المباشرة خي ولادةَ الدوري الأمريكي (MLS) عام 1996، كأولِ لبنةٍ في الصرح الجديد.
وما عزّزَ هذه الثورةَ كانت الأرقام الصاعقة للمتفرجين، حيث تجمّعَ 3.58 مليون متفرج مسجلين رقمًا قياسيًا خلال 52 مباراة، ومُظهرينَ للمرةِ الأولى حجمَ الشغفِ الكامنِ تحت السطح، حيث كان الحضور تجسيدًا غير مسبوق للوحدة بين طوائف الشعب، المهاجرين، وأميركي الجنسية، جماهيرُ المدنِ والضواحي، من كل الأعراق والطبقات، التفّتْ حول لعبةٍ عالميةٍ اكتشفتْ الدولة الجديدة سحرَها فجأة، حتى الفائضُ الماليُّ (50 مليون دولار) لم يُهدرْ، بل مُوّلتْ به مؤسساتُ تطويرِ اللعبة، لتضمن استمرارَ الزخم.
أما الأثرُ الأعمقُ فتمثّلَ في تحوّلِ كرة القدم إلى ظاهرةٍ مجتمعيةٍ جديدة وناشئة، حيث تحوّلتْ ملاعبَ الضواحي إلى حاضناتٍ لجيلٍ جديد، بينما انتشرتْ أكاديمياتُ الشبابِ في كل حيّ، وهكذا، نما من القاعدةِ الشعبيةِ نظامٌ متكامل، من الأطفالِ إلى المحترفين، جعلَ اللعبةَ جزءًا أصيلًا من نسيجِ أميركا، ولذلك فهي تُزهِرُ اليوم، لأنّ بذورَها وُضعتْ بعناية عام 1994، ولكن، وضع هنا ألف خط، هذه الجذورَ المجتمعيةَ المتينة لم تتحول بعدُ إلى شجرةٍ تُظلّلُ الساحة الرياضية، أزهرت، ولكن لم تكتمل حتى هذه اللحظة.
فرغم نموها المتسارع، وكونها تحتفظ بمكانةٍ فريدةٍ في المشهد الرياضي، وجمعها بين الشعبية الجماهيرية الصاعدة، بمتوسط حضور 20,000 متفرج في MLS، وفي المركز الثالث بعد NFL وMLB، ورغم أنها ذات مشاركةٍ شبابيةٍ عالية قدرت بـ 14 مليون لاعب عام 2023، لكنها لم تصل بعد لمستوى الهيمنة التي تتمتع بها الرياضات التقليدية.
سرّ هذه المفارقة يكمن في طبيعتها العالمية التي تتواءم مع تنوّع المجتمع، فالمهاجرون يحملون معهم شغفًا موروثًا باللعبة، بينما يحمل الأميركي الأبوين هوية مختلفة ترتبط أكثر بالألعاب المعبرة عن الواقع الأميركي العنيف والرأسمالي، ولذلك تتميز قاعدة المشجعين بأنها أكثر تنوعاً ثقافياً من الرياضات الأخرى، فيشكل المشجعون من أصول غير بيضاء حوالي 40% من قاعدة المشجعين، وفقاً لاستطلاع Morning Consult، كما تشير تقارير MLS إلى أن حوالي 30% من مشجعيها من أصول إسبانية أو لاتينية.
وهنا يكمنُ تناقضٌ لافتٌ: فبينما تُروَّجُ الولاياتُ المتحدةُ عالميًا كـقلعةِ الحريةِ والاستقلال، يترسّخُ في وعيها الجماعيِّ شعورٌ بالتفوُّقِ والاستحقاقِ، وهذه الثنائيةُ تنعكسُ على علاقتِها بكرةِ القدمِ الأمريكيةِ (NFL)، فكلّما تعزّزتْ هيمنةُ أمريكا دوليًا، اشتدَّ تمسّكُ شعبِها بهذه الرياضةِ كـمرآةٍ لتاريخِهم: الدفاعُ المستميتُ عن المرمى يصيرُ استعارةً عن حمايةِ الحدود، والتعقيدُ التكتيكيُّ يتحوَّلُ إلى أسطورةٍ تكرّسُ عبقريةَ الآباءِ المؤسّسين، حتى التدخلاتُ العنيفةُ التي تقررُ مصيرَ المباراةِ في لمحةٍ تُصوَّرُ كـنسخةٍ مصغّرةٍ من ضرباتِ الجيشِ الأمريكيِّ الخاطفة بداية من هيروشيما وحتى العراق.
وهناك أيضًا بعض العوائقُ الخفي، والتي لا تطفو على السطح، مثل أن النظام الشبابي الأميركي، شأنه شأن كل الأشياء، تحوّل إلى نموذجٍ مكلف، واللعب في نادٍ محلي قد تصل تكلفته إلى 10,000 دولار سنويًا، مما يُعمّق الفجوةَ الاجتماعيةَ ويحدّ من فرص المواهب الفقيرة، وفي الجهة المقابلة، ساهمت النجوميةُ في كسر بعض الحواجز، فوصول أيقونات مثل ميسي، وتجربة بيكهام السابقة، رفعَ سقفَ الاهتمام الإعلامي، وأيضًا نجاح بعض لاعبي المنتخب مثل بوليسيتش، وآدامز في أوروبا أشعلَ بعض الفخرَ الوطني.
وتلك العوائق موجودة أيضًا في التغطية الإعلامية، حيث شهدت تحولًا جذريًا: من ندرة بث المباريات الأوروبية في الماضي، إلى فيضانٍ غير مسبوقٍ عبر منصات البث الحديثة، وبعد عقودٍ من التهميش انقلبت المعادلةُ بعد 2008: حيث انتقل MLS من عقود بث تقليدية (8 ملايين دولار سنويًا مع ESPN عام 2006) إلى صفقةٍ تاريخيةٍ مع Apple (بث جميع المباريات عبر تطبيقها) ما غير قواعدَ اللعبة.
لكنَّ الوفرةَ أنتجتْ تحدياتٍ جديدة أيضًا: فتشظّي المباريات على 2,800 نافذة بث سنويًا عبر منصات متعددة يُربك المشجع العادي ويصعّب وصول الرياضة للجماهير العرضية، مما يُهدد اكتساب قاعدة جماهيرية أوسع، والجماهير، كما تعلم، هي عصب الرأسمالية الأميركية، هم الفئة الضالة التي تشتري منتجات السادة أصحاب المعالي والفخامة والسمو، والمليارات، وكرة القدم، شأنها شأن كل الأشياء، لابد لها من جماهير كي تزداد المبيعات.
الابن الحقيقي
الأموال، فتش عن الأموال، فهي الابن الشرعي للرأسمالية الأميركية، ولذلك فقرار الفيفا بمنح استضافة مونديال الأندية، وكأس العالم 2026 للولايات المتحدة (مشتركًا مع كندا والمكسيك) لم يُتخذْ لمجردِ الشعبيةِ الحاليةِ للعبةِ، بل لأنَّ الجاذبيةَ التجاريةَ لأمركرا لا تُقاوَمُ، فسجلُها التاريخيُّ في جذبِ الجماهيرِ، خاصةً بعدما حطمَ مونديالُ 1994 الرقمَ القياسيَّ العالميَّ بحضورِ 3.58 مليون متفرج، يُقدِّمُ ضمانًا لنجاحٍ ماليٍّ غيرِ مسبوقٍ.
وهنا تُصبحُ التوقعاتُ الاقتصاديةُ حجةً قاطعةً: فالحدثُ سيحقِّقُ 17 مليارَ دولارٍ إضافيٍ للناتجِ المحليِّ، وسيخلقُ 185,000 وظيفةٍ، مما دفعَ عمالقةً مثل “أمريكان إيرلاينز” و”بنك أوف أميركا” للانضمامِ لرعايةِ البطولةِ استثمارًا في سوقِ كرةِ القدمِ الصاعدة.
القضاء على “تيكي تاكا” وظهور طريقة لعب أقوى.. ما هي؟
وبقوة هذه الميزة التجارية تجد دعمًا هائلًا في البنية التحتية أيضًا، إذ تمتلكُ الولاياتُ المتحدةُ مجموعةً غيرَ مسبوقةٍ من ملاعبِ ال NFL الضخمةِ، والتي تُحوّلُ كرةَ القدمِ إلى آلة إيرادات بفضلِ أجنحتِها الفاخرةِ ومقاعدِها النخبويةِ، كما تُلبّي سعتُها متطلباتِ الفيفا الصارمةَ، ولعلَّ الأهمَّ أنَّ أميركا ستستضيف 60 مباراةً (من أصلِ 104) تشملُ المباراةَ النهائيةَ، مما يجعلُها القلبَ النابضَ لوجستيًا للبطولةِ الموسعةِ.
هذه الثقةُ اللوجستيةُ تُكمّلها ثقةٌ تنظيمية، فسجلُ أميركا الحافل في إدارةِ الأحداثِ العالميةِ جعلَ الفيفا تُقدِمُ على سابقةٍ تاريخية، إدارةُ المونديالِ مباشرةً دون لجنة محلية، وهو اعترافٌ بقدرتِها الفذةِ على تنظيمِ الفعالياتِ العملاقةِ، وكسب الأموال، ووراءَ هذه الآلةِ الضخمةِ، تُخفي الاستضافةُ طموحًا مجتمعيًا طويلَ المدى أيضًا تحتَ شعارِ “كرةُ القدمِ في كلِّ مكانٍ”، فالمبادراتُ تركّزُ على بناءِ الملاعب الآمنة، وإدخالِ اللعبةِ إلى المدارس، بينما تستثمرُ المدن المضيفة في تطويرِ البنيةِ التحتيةِ الشبابيةِ والإعلامية، ولكن لحظة، هل معنى ذلك أن “سوكر” ستتحول أخيرًا إلى “فوتبول” طبيعية مثل باقي البشر؟
أميركا لأميركا
لا، ستظل الكرة تحت اسم “سوكر”، وستظل العَركة منصوبة على الأغلب، ولكن في النهاية، قد يكون هناك شئ ما يلوح في الأفق، إن رحلة كرةِ القدمِ في الولايات المتحدة تشبهُ نهرًا يَحفرُ مجراهُ ببطءٍ؛ بدأتْ كظاهرةٍ هامشية مرتبطة بجيوب المهاجرين، ثم انطلقتْ لتُصبحَ جزءاً متجذراً في المشهدِ الرياضيِّ الأمريكيِّ. لكنَّ هذا التحولَ لم يلغ العلاقةَ المعقدةَ بينَ الأميركيِّ واللعبةِ، فما زالتْ هناك ثنائية تتراوحُ بينَ القبولِ والحيرةِ.
فمن جهةٍ، تُظهرُ الأرقامُ موجةَ شعبيةٍ صاعدةٍ بينَ الشبابِ والمجتمعاتِ متعددةِ الثقافاتِ، لكنَّ هذهِ الموجةَ تصطدمُ بصخورِ الهيمنةِ التاريخيةِ لرياضاتٍ مثلَ الـ NFL والبيسبولِ، التي تحتفظُ بأولويةٍ ثقافيةٍ يصعبُ اختراقُها، هنا يطفو السؤالُ الجوهريُّ: هل يحبُّ الأميركيونَ كرةَ القدمِ حقًا؟
والإجابةُ ليست قاطعة، بل أشبه بـظلٍّ متدرجٍ؛ فهناكَ جيلٌ شابٌّ ومجتمعاتٌ متنوعةٌ تَحمِسُ للعبةِ كشكلٍ من أشكالِ الانتماءِ العالميِّ، بينما يُحافظُ قطاعٌ واسعٌ على لا مبالاتِه أو حتى شكوكِه تجاهَ هذهِ اللعبة “الغريبة”.
أما سؤالُ الهويةِ فهوَ الأكثرُ تعقيدًا هنا، فبينما تُشكِّلُ الكرة جزءًا من الحمضِ النوويِّ للهويةِ في البرازيلِ وإنجلترا، تبقى في أميركا مرآةً للتنوعِ قبلَ أنْ تكونَ رمزًا للوحدةِ، لكنّ المؤشراتِ تنبئُ بتغيّرٍ تدريجيٍّ، خاصةً معَ استضافةِ مونديالَيْ 2025 و2026 اللذينِ يُشكلانِ محطةً تاريخيةً لصهرِ اللعبةِ في بوتقةِ الثقافةِ الأميركيةِ المتعددة الألوان.
أو بمعنى أصح، هي أشبه بشتلة غرسوها في تربةٍ جديدةٍ، قد لا تكونُ الشجرةَ الأضخمَ في غابةِ الرياضاتِ الأميركيةِ، لكنّ جذورَها تتعمقُ، وأغصانَها تحملُ ثمارًا واعدةً، والمونديال بالتأكيد يظل فرصةً هامة لتكريسِ “السوكر” كلغة أميركية جديدة تعكسُ تحولاتِ مجتمع يعيدُ اكتشافَ نفسِه على العشب الأخضر.