سليمان العبيد: هداف غزة الذي سقط برصاص إسرائيل في ساحة المساعدات (ملف شخصية)

-مارينا ميلاد
كانت الساحة هذه المرة مختلفة.. ليست عشبًا أخضر إنما أرضًا صفراء متشبعة بالدماء. وكان هو يركض أيضًا، لكن ليس خلف الكرة، إنما وراء صندوق طعام أو كيس طحين لعلى يفلت به ويعود لعائلته التي مضت أيام عليها دون قطعة خبز واحدة كحال نحو ثلث سكان غزة (بحسب تقديرات الأمم المتحدة). لكن سليمان العبيد، اللاعب السابق للمنتخب الفلسطيني وأحد أحرف لاعبي القطاع، أقصته إسرائيل خارج ساحة انتظار المساعدات، أمس الأربعاء، بعد استهدافه.
انضم “سليمان” لما لا يقل عن 1370 شخصا قتلوا أثناء محاولتهم الحصول على الطعام منذ 27 مايو؛ منهم 859 في محيط مواقع مؤسسة “غزة الإنسانية” المدعومة من أمريكا وإسرائيل و514 على امتداد طرق قوافل المساعدات، كما يذكر مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
لم يعد “سليمان”، لاعب مركز الوسط، لزوجته وبناته الثلاث من تلك المباراة الطاحنة التي ربما كان متيقنا من نتائجها، لكن لا مفر منها. فوجد موتا محتملا في كل الخيارات. إذ ارتفع عدد ضحايا الجوع حوله إلى 197 شخصا، بينهم 96 طفلًا (بحسب وزارة الصحة بغزة). فقرر أن يجري ويرواغ بجسد منهك حتى ولو للمرة الأخيرة.
كان الشوط الأول من حياة “سليمان” بعيدًا عن هذا المكان، فدار في الشمال الغربي من القطاع، عند ساحل البحر، حيث مخيم الشاطئ، الذي لعب لناديه وقضى هناك أغلب سنواته.. طالما تردد في أذنه هتافات جماهيره، تصفيقه، وكلمات المعلقين عنه كلما سدد هدفًا أو اقترب منه: “هل يفعلها الشاطئ؟، ممكن تكون لسليمان، هل يطلق القاضية؟.. لا صوت يعلو فوق صوت المخيم”.
فالكرة ومعها “سليمان” كان لهما بريقًا خاصًا عند سكان المخيم المكتظ، الذي يعاني البطالة والفقر. فهو ثالث أكبر مخيمات اللاجئين الثمانية في قطاع غزة، يقطنه فوق الـ100 ألف شخص، فتك حصار غزة بحياتهم، كتقييد الحد المسموح به للصيد لستة أميال بحرية فقط. كما يعاني نقص المرافق الترفيهية والاجتماعية العامة، بحسب وكالة الأونروا. ووسط ذلك، “كانت الكرة المتنفس الوحيد لهم”، كما قال محمود عطوة (أحد سكانه) في إحدى اللقاءات التلفزيونية التي أجريت بالشارع عام 2022.
وعندما سأله المذيع عن “سليمان”، فأكمل: “من أفضل ما أنجبت الكرة الغزية”.. ثم استدار ليجد “سليمان” خلفه خارجًا من السيارة، وهذه فكرة البرنامج، فابتسم الرجل وعانقه بقوة ثم ختم كلامه: “في ظل الإمكانيات والظروف، ليس لدينا الكثير مثله”.
لم يكن شيئا سهلا في غزة حتى بأيامها العادية. ومع ذلك، كان “سليمان” يدرك “أن عليه الفوز دائمًا، تسجيل الأهداف دائمًا، المنافسة على الدوري الممتاز”، كما قال في إحدى لقاءاته. تلك المهمة التي بدأت معه مبكرًا، بالتحديد حين كان بالمدرسة. فتابعه شخص يدعى محمد ابمرسه، الذي كان ينظم بطولات بالساحات الشعبية وأخذه للتدريب بنادي خدمات الشاطئ، النادي الذي انضم “سليمان” لفريقه لاحقًا. فوضعه هذا الرجل على بداية الطريق ثم اختفى عنه، حيث بات أسيرًا بالسجون الإسرائيلية لعشرين عامًا قبل أن يخرج عام 2023، كما حكى “سليمان”.
ثم تغيرت خطته عام 2009، بل وأضاف عليها الكثير من الدراما، حين قرر أن يترك “نادي الشاطئ” الذي بدأ به ليعبر الخط الفاصل والنقاط الإسرائيلية بين غزة والضفة الغربية، ويلتحق بصفوف نادي مركز شباب الأمعري.
ولأنه في غزة، حيث الحصار من كل ناحية، فلم يكن مسموحًا لـ”سليمان” أن يذهب بالاتجاه الآخر، فكر كثيرًا حتى وجد الحل في سيارة إسعاف!
“انطلق سليمان في سيارة إسعاف كمن يتخذ القارب في البحر للانطلاق الى عالم جديد، بحجة وجود حالات صحية حرجة وضرورية تحتاج للمعالجة في الضفة الغربية”، هكذا قال ستيفان سانت ريموند (مدير العلاقات العامة في رابطة المحترفين العالميين) حين التقاه هناك عام 2012.
وقتها، كان “سليمان” يطبق عليه شعور مختلط وغريب فهو حزين لتركه غزة وأسرته منذ ثلاث سنوات، وسعيد لإنجازاته مع ناديه الجديد، الذي تُوِّج معه بلقب أول نسخة لدوري المحترفين في موسم 2010-2011، ويتقاضى فيه 2500 دولار شهريًا، وخائف أيضا لأنه في أي لحظة يمكن توقيفه وإعادته إلى غزة.
بدا “سليمان” للجميع أن “جسده في الضفة ولكن روحه في مكان أخر، في غزة”، كما وصف “ستيفان” (مدير العلاقات العامة في رابطة المحترفين العالميين). وخلال جلستهما، عدّل “سليمان” طريقة جلوسه وابتسم، وقال لـ”ستيفان” :” حققت هدفي بأن أصبح لاعب كرة قدم محترف، وأجني المال. ولكن الثمن غالٍ.. لست لاعب كرة القدم الفلسيطيني الوحيد الذي يعاني من هذا الوضع!”.
شارك “سليمان” في تصفيات كأس العالم بعد أن وقع الاختيار عليه من مدرب المنتخب الفلسطيني. تلك اللقاءات الكروية التي ادخلت كرة القدم الفلسطينية ضمن نطاق كرة القدم العالمية وادخلت “سليمان” في عالم أخر مختلف عن حياة غزة. لكنه عاد إليها عام 2013 ولم يغادرها مرة أخرى.
لعب لنادي “خدمات الشاطئ” موسم واحد، ثم التحق بصفوف نادي غزة الرياضي وحصل معه على لقب هداف الدوري الممتاز في المحافظات الجنوبية في موسم 2015-2016، مسجلا 17 هدفا، وبعدها عاد إلى فريقه “خدمات الشاطئ، واقتنص معه لقب هداف الدوري الممتاز في موسم 2016-2017، بعد أن أحرز 15 هدفا، بحسب رصد بيانات اتحاد كرة القدم الفلسطيني.
أكثر من 100 هدف سجلها “سليمان” طوال سنوات لعبه، جعلته نجمًا في الأوساط الرياضية، بل يلقبوه بـ “الغزال، الجوهرة السمراء، وبيليه الكرة الفلسطينية”. ولم تتأثر لياقته ومهاراته يومًا حتى مع تجاوز عمره الأربعين، إلى أن حلت حرب السابع من أكتوبر 2023.
نزح إلى الجنوب مع أسرته، ونجا مرة واثنان وعشرة، لتدخل معاناته في أشواط إضافية. وبالنسبة له، فكان “هناك أمل أن ينتهي كل هذا، ويتم الاتفاق على وقف إطلاق النار”، بحسب محادثته مع أحد أصدقائه قبل أيام. لكن طاله استهداف إسرائيلي، وهو يبحث عن طعام لأطفاله، أمس الأربعاء، ليرتفع عدد من راحلوا من الرياضيين والكشفية إلى 662 شخصا منذ بدء الحرب، وفقا لاتحاد كرة القدم الفلسطيني.
ونعاه إيريك كانتونا، نجم مانشستر يونايتد السابق، حيث كتب: “قتلت إسرائيل للتو نجم المنتخب الفلسطيني أثناء انتظاره المساعدات في رفح، إلى متى سنسمح لهم بارتكاب هذه الإبادة الجماعية؟ فلسطين حرة طليقة”.
اطلقت الصافرة، وانتهت مسيرة “سليمان”، الذي لم يهتم يومًا إلا بالكرة، فكانت أسعد لحظاته، كما يقول، “عندما سجل هدف الصعود البحرية في مرمى فريق نماء”، وأتعسها “عندما هبط نادي الشاطئ لدوري الدرجة الأولى”.
ذهب “سليمان” أو “إياد زايد”، الاسم الذي كتب بالسجل المدني عند ولادته وسألته عنه المخابرات الإسرائيلية، ثم غيره لـ”سليمان”، فبات باسمين وتاريخي ميلاد، وبقى وراءه لقطات أهدافه كأخر مباراة في نهاية أغسطس 2023 حين سدد هدف في مرمى غزة الرياضي بضربة جزاء، وقال المعلق بصوت مبحوح من فرط حماسته: “ومن لها غير سليمان!”.
اقرأ أيضا: جولة جديدة من مساعدات غزة “القادمة من السماء”.. فهل تفيد؟