مبادئ غاندي أمام تراجع القيم العالمية: بين الطموح والواقع

جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
في زمنٍ تسوده الاضطرابات، وتسيطر عليه لغة المصالح والماديات، يبدو استحضار “أخلاق غاندي” أشبه بنداء أخير للضمير الإنساني قبل الانهيار التام. لقد كان المهاتما غاندي رمزًا للسلام، اللاعنف، التسامح، والزهد في السلطة والمال، فقاد شعبه للتحرر بروح أخلاقية، لا بقوة السلاح. لكن لو عاد غاندي اليوم، ونظر إلى حال العالم، لربما صمت طويلاً قبل أن يجهش بالبكاء.
يعيش العالم اليوم على إيقاع التناقضات. فبينما تتسارع وتيرة التكنولوجيا وتتسع رقعة الحرية الرقمية، تتآكل منظومة القيم والأخلاق في المجتمعات. الكذب بات فنًا إعلاميًا، والخيانة وجهة نظر، والتشهير أداة شهرة، والعنف أصبح وسيلة للتعبير عن الرأي.
كانت الفنون لقرونٍ لسان حال الشعوب، ومرآةً تعكس آمالهم وآلامهم. اليوم، تحوّل جزء كبير من الإنتاج الفني إلى سلعة استهلاكية فارغة من المضمون، تتغذى على الجسد والإثارة، وتُسوَّق بأسلوب يُخاطب الغرائز لا العقول. الفن الحقيقي، الذي لطالما دعا إليه غاندي باعتباره أداة للإصلاح والتقارب، أصبح اليوم عملة نادرة.
في زمن غاندي، كانت العلاقات الإنسانية قائمة على الثقة، الرحمة، والصدق. اليوم، تحكمها المصلحة، ويغلفها الشك، وتُديرها تطبيقات لا تُدرك قيمة العاطفة. الصداقة تُقاس بعدد “الإعجابات”، والحب يتحول إلى صفقة عابرة. وكأننا عدنا إلى عالم الغاب، ولكن ببدلات أنيقة وهواتف ذكية.
رسالة غاندي الأهم كانت “اللاعنف”، ليس فقط في مواجهة الاحتلال، بل كفلسفة للحياة. واليوم، في ظل الحروب التي لا تهدأ، والاحتقان السياسي، والتنمر الإلكتروني، يبدو أن اللاعنف أُسقط عمدًا من القاموس العالمي. بل إن بعض القادة يستخدمون لغة الكراهية والفوقية دون خجل، مما يزيد من تقسيم الشعوب وتعميق الجراح.
إن أخلاق غاندي ليست حنينًا إلى ماضٍ جميل، بل وصفة نجاة لعالمٍ يوشك أن يغرق في الفوضى. ربما لا نستطيع إعادة إنتاج غاندي، لكن بإمكاننا أن نعيد الاعتبار لقيمه، في البيت، في المدرسة، في الفن، في الإعلام، وفي قرارات السياسة اليومية. وحدها الأخلاق، كما كان يؤمن غاندي، قادرة على أن تنتصر في النهاية، حتى وإن تأخرت.