سجن الخُطبة: أئمة المساجد في المغرب بين الروتين والطقوس

سجن الخُطبة: أئمة المساجد في المغرب بين الروتين والطقوس

“في المجتمعات الإسلامية، يشكل الإمام شخصية رمزية محورية، تتقاطع عندها الوظائف الدينية مع التوقعات الاجتماعية والثقافية. وفي السياق المغربي، يكتسب الإمام وضعا خاصا يتجاوز مجرد كونه موظفا دينيا، ليصبح رمزا للورع والانضباط الأخلاقي. لكن هذا الدور، الذي يبدو مُجلًّى من الخارج، يخفي خلفه توترات عميقة يعيشها الإمام بين حياته الخاصة، وواجباته الرمزية. كيف يعيش الإمام المغربي يومه وسط هذا التنازع بين الذاتي والمؤسساتي، وبين ما يحق له كإنسان وما يفرض عليه كرمز؟ هذا ما تسعى هذه القراءة السوسيولوجية إلى تفكيكه، عبر تحليل أبعاد الحياة اليومية للأئمة، وحدود الحريات الفردية التي يسمح لهم بممارستها، في ظل التقاليد، والرقابة المؤسسية، وانتظارات الجماعة.

الإمام: الفاعل الديني بوصفه رمزا اجتماعيا

ليس الإمام فاعلا دينيا فقط، بل هو حامل لمعانٍ ثقافية واجتماعية، يُنتظر منه التجرد من الملذات، والتقشف، والابتعاد عن مظاهر الترف أو المتعة، بل وحتى الانفعال البشري العادي. يفهم دوره وفقا لمنطق التمثيل الرمزي، حيث يصبح جسده وسلوكه اليومي مجالا للرقابة والتأويل المستمر، في انسجام مع ما يسميه إرفينغ غوفمان أداء الأدوار الاجتماعية داخل الفضاء العمومي. وتحمّله الدولة، من خلال وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، مسؤولية مزدوجة، تتراوح ما بين أداء الوظيفة الدينية، والمحافظة على صورة أخلاقية مثالية، حتى خارج المسجد.

الحياة اليومية تحت طائلة الرقابة الرمزية

يحيا الإمام في المغرب تحت وطأة رقابة مزدوجة ما بين ما هو مؤسساتي ومجتمعي. فالمؤسسة تفرض عليه نظاما صارما من خلال دفتر التحملات الذي ينظم لباسه، مداومته، تصريحاته، وحتى الإجازات التي يطلبها. أما المجتمع، فيخضعه لمراقبة رمزية أشد، بحيث تعتبر أبسط سلوكياته (شراء هاتف حديث، الضحك في مقهى، مشاهدة مباراة، اصطحاب أبنائه إلى الشاطئ…) تصرفات “لا تليق بالإمام”، وقد تؤثر على “هيبته”.هذا ما يجعل حياة الإمام اليومية مفخخة بالتوقعات، ويجعله في حالة تقمص دائم لشخصية قد لا تشبهه في العمق، لكنه مضطر لتمثيلها باستمرار، تفاديا للنقد أو العزل.

متعة الحياة والحق في الذاتية: الإمام ككائن بشري

الإمام، رغم كل ذلك، هو كائن بشري يحمل رغبات، ويعيش توترات، ويحتاج إلى الحب، والراحة، والتقدير. غير أن تموقعه داخل شبكة معقدة من التمثلات، يضعه في حالة اغتراب رمزي، حيث يعيش انقساما داخليا بين ما يريده وما يفترض أن يكون عليه. إن حرمان الإمام من حقه في الذاتية يحوّله إلى آلة دعوية أكثر منه إنسانا، مما يخلق في داخله مشاعر الحيرة، القلق، أو حتى الانسحاب الرمزي.قد يشعر العديد من أئمة الشباب بالعزلة، ويجدون صعوبة في بناء علاقات اجتماعية طبيعية بسبب نظرة المحيط التي تفرض عليهم “الصمت الوقور”، و”الحضور الباهت”، و”السلوك المنضبط” في كل وقت.

الانفلاتات الفردية: التمرد الصامت على النموذج

أمام هذا الوضع، يلجأ بعض الأئمة إلى أساليب متعددة للتمرد، قد تكون صامتة أو ظاهرة. هناك من يفرط في الورع شكليا كنوع من الحماية الرمزية، وهناك من ينسحب من الحياة الاجتماعية ويعيش عزلة وجودية، بينما يتجه البعض الآخر إلى اختراق الحواجز، عبر التعبير عن آرائهم، أو المشاركة في أنشطة فنية، أو حتى إعلان مواقفهم السياسية، رغم أن ذلك قد يؤدي إلى توقيفهم أو عزلهم.

وتظهر هذه الانفلاتات كيف يتحول الإمام من مجرد حامل للخطاب الديني إلى كائن يتفاوض مع الواقع، ويعيد إنتاج ذاته خارج الحدود التقليدية التي تفرض عليه. هذا ما يجعل من حياته اليومية ساحة لصراع خفي بين الاستمرار في أداء الدور، أو التمرد على النموذج.

نحو مساءلة الوضع الاعتباري للإمام في المجتمع المغربي

إن فهم الحياة اليومية للأئمة بالمغرب يفرض تجاوز الصورة النمطية للإمام الورع المنعزل عن الحياة، لصالح رؤية أكثر إنسانية وتعقيدا. فالإمام ليس مجرد فاعل طقوسي، بل هو شخص يعيش وسط ضغوط مجتمعية، وتحديات مهنية، وانفعالات إنسانية. وبينما يتطلب منه المجتمع التمثيل الدائم للمثال الديني، فإن ما يحتاجه فعليا هو الاعتراف بإنسانيته، وتوفير ظروف مادية ونفسية تضمن له كرامة العيش، وحرية التوازن بين دوره الديني وحياته الشخصية. بذلك فقط يمكن أن يتحول الإمام من كائن “مؤدلَج” إلى فاعل اجتماعي حر ومسؤول.

د. هشام بوقشوش/ باحث في علم الاجتماع