تعزيز الذاكرة كوسيلة علاجية لتعزيز أسس المصالحة الوطنية

تعزيز الذاكرة كوسيلة علاجية لتعزيز أسس المصالحة الوطنية

لا شك أن الماضي محطة علاجية يمكن أن تكون شفاء بمنجز العدالة الانتقالية من تاريخ النضال بمختلف الأحداث والوقائع ومحطة مؤلمة لما تعرض لها الضحية خلال مسار الاعتقال ومسار الأمكنة التي مر منها المعتقل، التي الأمكنة كانت بالقانون أو خارج القانون أمكنة غير نظامية لها أثر كبير على الضحايا وعلى المجتمعه، فمقاربة حفظ الذاكرة،  قد تصيب الهدف أو تستبعد جميع الأهداف وتفرغ مسار العدالة الانتقالية على نفوس المعتقلين وعلى محيط المعتقل وعلى المجتمع برمته.

ونطرا لما ارتبط بوقائع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالمغرب من تجاوزات خلال ما يسمى ب”سنوات الرصاص” وما ترتب عنها من أمكنة تاريخية كتبت روايات وقصص اطلعت عليها هيأة الإنصاف والمصالحة خلال تحرياتها الميدانية ارتبطت في أزمنة معينة خصوصا منها مابعد الاستقلال من مراكز غير نظامية ك تازمامارت، أكدز، قلعة مكونة، داربريشة، الكوربيس، درب مولاي شريف، تاكونيت، دار المقري…

كلها تجسد رموز أمكنة تاريخية من ماض الانتهاكات من التاريخ المعاصر للمغرب، كانت في عيون الحركات الحقوقية الوطنية والدولية مواقع للفظاعة والبشاعة الإنسانية تجرد الانسان من انسانيته… لكن مقاربة آليات العدالة الانتقالية تركز على آلية مهمة وهي حفظ الذاكرة لأجل عدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المستقبل.

هذه الآلية تعتبر مدخل من مداخل تحقيق المصالحة ضمن مقاربة العدالة على وجه الانصاف: إنصاف التاريخ، إنصاف المكان، إنصاف الضحية، إنصاف المجتمع…، فهذه الآلية لايمكن تحقيقها مادام أن هناك آليات أخرى إتسمت بالنقص في التنفيذ أو المعالجة النهائية، كـ (ملف الحقيقة، جبر الضرر بتشعبه، الاصلاحات المؤسساتية والتشريعية…  وغيرها)، فإن آلية حفظ الذاكرة كقاعدة أساسية ضمن آليات العدالة الانتقالية تأتي في مرحلة استكمال باقي الآليات الأخرى فهي تتويجا لمسار ومبدء أساسي لعدم تكرار الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في المستقبل فهي تجسد قيمة رمزية للمجتمع على مستى الواقع من خلال بناء النصب التذكارية وكل ماهو مرتبط بالتذكار،  فالذاكرة لها غايات منها:

أولا: تحويل الذاكرة الفردية إلى ذاكرة جماعية أي تذويب كل ما هو فردي إلى ما هو جماعي ويصبح الحديث عن الذاكرة الجماعية الممأسسة التي تطرح بدائل صريحة غنية وثرية خلية من الأحقاد لها قيم تربوية تجعل من المجتمع متماسك في بنياته وأهدافه الكبرى وتحاول من خلاله الذاكرة الجماعية بناء الهوية الجماعية التشاركية دون إقصاء أو إهمال.

ثانيا: الحفاظ على مكان الذاكرة كرمز ضد النسيان وكرمز لتخفيف الآلام لما ارتبط بذاكرة الفرد من بشاعة وانتهاك، بالرغم من أنها أحيانا تشكل حافزا لعودة الألم إلى روح الضحية وللمجتمع، غير أن المكان له صوره، وتوظيف الصور تحتاج إلى إرادة سياسية لتحقيق ولتدبير الذاكرة في بعدها ورسالتها البيداغوجية. وبالتالي، فإن الذاكرة تساعد على تثقيف المواطنون عبر المدرسة والجامعة وباستعمال أساليب وأدوات حديث للتعريف أو فهم قضايا المعاصرة للمجتمع.

ثالثا: فهم ما يجب أن يكون مشتركا بين مختلف الأطياف للحفاظ على الذاكرة الجماعية للمجتمع من الفكرة إلى التنفيذ إلى استدامة الفكرة في الواقع من الاندثار والإصلاح والحفاظ على مكان الذاكرة، غير أن المشترك أحيانا يشكل خلاف بين الضحية والدولة حول من يمتلك الحقيقة وحول طريقة تدبير المكان أو كل ما هو رمزي أو معنوي…لأجل تحقيق السلم الاجتماعي.

هذه الغايات ضرورية ومهمة في سياقات تجارب العدالة الانتقالية في تتبع مسار تدبير حفظ الذاكرة كاستراتيجية وطنية ولما تعكسه توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة من أهميتها وبعدها كقاعدة أساسية ضمن آليات العدالة الانتقالية، فتراتبية تلك الآليات لها أهمية وغاية في حد ذاتها لأجل تحقيق الإنصاف ضمن حركية حركة الضحايا وذويهم.

لكن ما يجب أن ننتبه إليه، هو أن جل تطبيقات العدالة الانتقالية تلتقي في مايسميه “ماري كلير لافابر Marie Claire Lavabre ب”نواقل الذاكرة” من خلال تدابير مشتركة بناء المتاحف إعادة تسمية المؤسسات والشوارع بناء النصب التذكارية تحويل المعتقلات إلى مراكز رمزية جلسات الاستماع العمومية… وتشجيع كتابة أدب الاعتقال السياسي ومختلف أجناس الأدب تأهيل مقابر  الضحايا…وغيرها.

فهذه النواقل حسب “ماري كلير لافابر” يتم اعتمادها في مخرجات توصيات لجان الحقيقة والمصالحة في مختلف تجارب العدالة الانتقالية الدولية – جنوب افريقيا- سيراليون- بيرو-الارجنتين- تيمور الشرقية….وغيرها.

فهل هذه النواقل تحقق ما يسمى بالمصالحة الوطنية وإنصاف المجتمع لما تعرض له من مضايقات أو تجاوزات خلال فترة معينة؟ وهل تدبير آليات حفظ الذاكرة ضمن السياسات الحكومية ستجسد الاحساس بالانتقال والتحول في المجتمع؟ وإذا تم تنفيذ تلك السياسات، كيف يمكن لنا الحفاظ على المكان بعد تحويله إلى مكان للذاكرة؟ وكيف يمكن تدبير أو استدامة المنجز (حفظ الذاكرة) من الاستمرارية والاصلاح وغيرها؟.

إن إشكالية عدم تنفيذ مقاربة حفظ الذاكرة، أصبحت تعيق مسار العدالة الانتقالية في ظل غياب تام لنص قانوني يؤطر هذا المسار من التشاور إلى التنفيذ وإلى الاستدامة، فنهج بناء النصب التذكارية من لدن الحكومات دون تتبع مسار ومتغيرات المكان من الصيانة والتسير والحراسة يعيد النقاش عن الغاية من البناء. وبالتالي، فإن وضع تشريع قانوني يؤطر هذا المسار في مختلف الأمكنة، قد يجسد إرادة سياسية لتتبع ذلك وإنجاح آلية حفظ الذاكرة ضمن مقاربة العدالة الانتقالية.

إن البحث عن حفظ الذاكرة من الاندثار في مقاربة العدالة الانتقالية تجسد مداخل وإرادة في تحقيق المصالحة باعتبارها آلية من آليات العدالة الانتقالية، فالالتزام بذلك يجسد عدم تكرار الانتهاكات في المستقبل والتزام الدولة بتنفيذها لأنها تساهم في نشر قيم التسامح وتعزيز الوحدة الوطنية.

فجل الفاعلون بمختلف الأطياف المدنية والسياسية يؤكدون أن حفظ الذاكرة من خلال الأحداث والوقائع يمنع تكرارها ويحميها من النسيان وذلك ما يلاحظ من خلال التفاعلات الدولية على تطور وصيانة أمكنة الذاكرة بازدياد تسمية الأيام الوطنية للتذكار (9 أيام في فرنسا في ظرف 13 سنة ) إلى جانب ذلك ازداد عدد كبير من الزيارات للمتاحف والأماكن التاريخية التي تسمى “مطاريح الذاكرة ” 1000 متحف في فرنسا… غير أن  سياسات التذكار نجدها في بعض الأنظمة تخضع للمقاومة لأجل نسيانها أو النيل منها.

فالتجربة المغربية كان لها نصيب في تنفيذ توصيات الهيأة في مجال حفظ الذاكرة، كتحويل المعتقلات غير النظامية سابقا إلى فضاءات سوسيو-ثقافية منها، تهيئة فضاء المعتقل السابق بتازمامارت، الذي انطلقت الأشغال به في فبراير 2020؛  وترميم المعتقل السابق بأكدز و إنشاء متحف الحسيمة 2021 وصيانة المدافن التي تضم رفات الضحايا، بكل من مقبرة ضحايا الاختفاء القسري بقلعة مكونة ومقبرة ضحايا أحداث يونيو 1981 بالدار البيضاء ومقبرة ضحايا أحداث يناير 1984 بالناظور، …. وكذلك إنشاء المتحف الوطني للتاريخ، وإحداث وحدة حفظ الذاكرة والعناية بالتاريخ المغربي، بناء نصب تذكاري لضحايا الصخيرات بمقبرة العلو الرباط، وغيرها.

ولكن بالرغم من ذلك، لازالت مقاربة حفظ الذاكرة تثير نقاشات واسعة من لدن الحركات الحقوقية والأممية من خلال عدم استكمال وتعميم توصية الهيأة في مختلف مراكز الاعتقال سابقا وعدم تخصيص يوم وطني للضحايا كسائر التجارب الدولية للعدالة الانتقالية. فقد وجهت للمغرب من خلال الملاحظات الختامية للجنة المعنية بحالات الاختفاء القسري في 18 اكتوبر 2024 في الفقرتين 62 و 63 ، “توصي اللجنة بأن تضع الدولة الطرف برنامجا مستداما لحفظ الذاكرة بشكل دائم، بالتشاور مع الضحايا والتنسيق معهم، من أجل حماية المواقع المستخدمة لتنفيذ حالات الاختفاء القسري، وتحويل المواقع المناسبة إلى أماكن تثقيفية وتذكارية متاحة لعامة الجمهور.”.

وعليه، فإن تدابير حفظ الذاكرة تحتاج إلى إرادة سياسية في تتبع مسار توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة في هذا الجانب،  دون إغفال تراتبية آليات العدالة الانتقالية لأجل تحقيق المصالحة المجتمعية بين مختلف الأطياف دون إقصاء أو إهمال لأن قواعد العدالة الانتقالية التي تطبقها مختلف الدول لها خصوصيات تم وضعها من لدن مهندسي العدالة الانتقالية، أليس من العدل أن نسائل تلك القواعد التي طبقت بخصوصيتها ومهامها في ظل عشرينية العدالة الانتقالية بالمغرب؟

وفي الختام يمكن اقتراح بعض الخلاصات وهي على النحو التالي:

أولا: إن القيام بتفعيل آليات العدالة الانتقالية في مجال الذاكرة باعتبارها أماكن وجدانية لجميع الأفراد لخلق صلة وصل بين الداخل والخارج بتعميق الشعور الوجداني والتاريخي للمكان حفاظا على الزمان الأليم دون الهروب من ماضيه.

ثانيا: إن المجتمع المدني المغربي يلعب دورا رياديا أو معلما تذكاريا في مختلف المناطق التي كانت مسرحا للانتهاكات أو التي كان تحتضن السجون السرية في تنظيم لقاءات وتظاهرات تحيي الماضي بتجلياتها ويعطيها الشرعية الشعبية لأجل إثارة النقاش العام عبر مختلف القنوات الخاصة والعامة التي تمثل الماضي بتمثلاته لتحقيق المصالحة الاجتماعية على المدى الطويل.

ثالثا:  التذكير بعدم التكرار من خلال مختلف الضمانات القانونية والمؤسساتية. فهذه الممارسات التذكارية تقوي البعد المعنوي لدى الضحايا وذويهم وللمجتمع برمته خصوصا بعد مصاحبتها بتعميق الدراسات والأبحاث ذات صلة للتغلب على الإنكار وتزوير التاريخ أو الأحداث.

رابعا: واصلت تجارب لجان الحقيقة والمصالحة تنزيل بعض التوصيات المتعلقة بحفظ الذاكرة من خلال إنشاء خرائط النصب التذكارية في كل بلد وفقا للمعايير الدولية بعد توسيع النقاش العمومي وخصوصا الضحايا وذويهم لأجل مواصلة تنزيل ذلك كل من جنوب افريقيا-سيراليون-غواتيمالا- البيرو- الشيلي- الأرجنتين- تيمور الشرقية، كما يتم مراعاة البعد الثقافي للشعوب الأصلية في عمليات التذكارية وخصوصا الفئات التي تعرضت للقمع والحروب الأهلية.

خامسا: أن معظم لجان الحقيقة عملت على تقديم توصيات في شأن تحويل المعتقلات السرية غير النظامية إلى أماكن تذكارية وجدانية تربط بين الماضي والحاضر والمستقبل، غير أن بعض الأنظمة السياسية لم تقم بتنفيذها بالشكل الذي يتماشى مع التوصيات وآراء فعاليات المجتمع المدني في قضايا تخليد الذكرى واستراتيجيات حول خرائط النصب التذكارية.

سادسا: إن مقاربة حفظ الذاكرة في التجربة المغربية لازالت تحبُو في مكانها بالرغم من الاجابيات إلى أن مرور عشرون سنة ولم يتم استكمال تلك التوصية المتعلقة بحفظ الذاكرة، فهل ذلك يعود إلى ضعف الموارد المالية ؟ أم غياب إرادة سياسية؟ أم إرادة في تمويت العدالة الانتقالية بالمغرب.

عموما، على أنظمة دول العدالة الانتقالية مواصلة تشجيع عمليات بناء النصب التذكارية المرتبطة بمختلف الأحداث والوقائع الاجتماعية والسياسية بإيجابية في التخطيط والتفكير التشاركي ونبذ أحادية بناء التاريخ، وإطلاق مشاريع تحفيزية وإبداعية قصد التصدي للمخاطر التي يمكن أن تعيد أخطاء الماضي مع القيام بتشجيع التفكير النقدي للماضي، ومراعاة البعدين: الثقافي لشعوب الأصلية أثناء إنجاز العمليات التذكارية والبعد الاقتصادي لتلك العمليات لضمان الاستمرارية من حيث الاهتمام وإعادة الترميم دون إغفال معالجة قواعد وآليات التي تسبق حفظ الذاكرة ضمن مقاربة العدالة الانتقالية.

مدير المركز المغربي للعدالة الانتقالية ودراسة التقارير الدولية-