في مركز الرباط.. مدينة الأضواء تجمع بين سحر التراث والتكنولوجيا الحديثة

في مركز الرباط.. مدينة الأضواء تجمع بين سحر التراث والتكنولوجيا الحديثة

يتخذ سعيد مجلسه المعتاد، كلما آذنت الشمس بالمغيب، في هذه المقهى الشعبية المفتوحة على ساحة واسعة. يعشق أماسي الرباط الرائقة، كما يقول. تتفرع عن الساحة شوارع حديثة وأزقة عتيقة في توليفة بديعة يتساكن فيها الماضي والحاضر في رقعة واحدة. إنها “عبقرية الزمان والمكان”، يعلق الرجل الستيني.

نحن الآن على مشارف المدينة القديمة في الرباط. المساء الرباطي الأنيق يبعث في المرتادين نشوة خاصة أشبه بفرحة اللقاء المفاجئ بعد غياب طويل. يقول سعيد، وهو يتابع الأقدام المهرولة عبر زقاق جانبي تصطف على جنباته حوانيت تقليدية، “أنا من أبناء الرباط القدامى، لكني أرى مدينتي كل يوم بعيني سائح يكتشفها للمرة الأولى”.

وسط صف بشري طويل يغمر الزقاق على مد البصر، تحث سيدة ثلاثينية خطاها الوئيدة كأنها تبحث عن شيء ضائع وسط الزحام. تجيب السيدة، بابتسامة خجولة، “أبحث عن بائع الرويزة.. طعمها لا يقاوم”. أكلة شعبية شهيرة، أقرب إلى المخللات، خفيفة لكنها لذيذة، كما يؤكد هؤلاء المتحلقون حول بائعيها في كل مكان.

تواصل السيدة الثلاثينية رحلتها المسائية تراقب التفاصيل باندهاش لا تخطئه العين. طلبت أكلتها الشعبية المفضلة ثم مضت تقطع الأزقة وصولا إلى السويقة الشهيرة. الأبواب المنتصبة في شموخ تعلوها أسقف خشبية مزخرفة وتحتها أرضية مبلطة يدويا بعناية صانع محترف تقفز بالزائرة فوق حواجز الزمن وتنقلها نحو عوالم آسرة ولانهائية. هنا، المعابد والزوايا والمنازل الرباطية العتيقة وحوانيت الحرفيين ومحلات التجار وقد اكتست حلة بهية بفعل عمليات تأهيل متواصلة.

لا يتطلب الأمر عناء كبيرا. جولة قصيرة وسط هذا “المتحف المفتوح”، كما يسميه الخبير الاقتصادي بدر زاهر الأزرق، تكفي لتكشف المدينة العتيقة عن مكنونها وما انطوت عليه أزقتها من كنوز تاريخية معروضة في الهواء الطلق بلا تأشيرة دخول، يعلق صديقنا الفاسي الذي يعيش في الرباط منذ ما يقارب العقدين من الزمن.

ولئن كان للناس في ما يعشقون مذاهب، كما يقال، فإن للعشق مذهبا واحدا في هذه الربوع. يقودك، كأي دليل سياحي متمرس، نحو عوالم باذخة بعفويتها التي تشبه الانسياب العفوي للحياة. أنا متيم بالرباط، يهمس نور الدين بلحداد، الأستاذ الجامعي الرباطي مولدا ونشأة. ويروي، في حديث شائق، ذكرياته في الرباط وكيف تحولت هذه المدينة التاريخية العريقة – على مر الأعوام – إلى موقع جذب سياحي يضاهي كبريات المدن في العالم.

يطالع، في شوق متجدد لم تبله السنين، هذه الأسوار العالية التي تفوح بعبق التاريخ. إنه تاريخ المملكة المغربية الشريفة، يقول الأكاديمي الذي قضى أزيد من ستة عقود في الرباط، لم يخرج منها إلا ليعود إليها.

غير بعيد، تنتصب قصبة الأوداية. تتوقف سيارة أجرة بالقرب من أحد المداخل. تفتح سيدة خمسينية عينيها في اندهاش، وهي تهم بالنزول، وتمعن النظر في الأقواس المنحوتة والزخارف المنقوشة، ثم تصدح بفرنسية أنيقة: “إنه منظر بديع!”. يجيب مرافقها دون أن يحيد ببصره عن المدخل الرئيسي للأوداوية: “إنها فوق كل توقعاتي”.

يقع الكثيرون في حب هذه المدينة من أول نظرة. يقرأ الملاحظ في عيون السائحين دهشة الحب الأولى. عبر منصة القصبة، تطل الرؤوس على مناظر بانورامية خلابة. المحيط الضاج المصطخب يساكن الوادي الهادئ الوادع كأنه الحلو يمتزج بالمالح في أكلاتنا الشعبية المغربية. يا لرمزية المكان، يعلق الأكاديمي المغربي بدر زاهر الأزرق. الرباط تعود إلى بحرها وواديها – كما كانت دائما خلال تاريخها الطويل – عبر مشاريع تحديثية كبرى صنعت لمدينة الأنوار هوية سياحية جديدة، يؤكد الخبير الاقتصادي.

وفيما باتت السيدة الثلاثينية – القادمة من وجدة – تسرع الخطى وقد بدأ المساء ينقشع عن خيوط الليل الأولى، لعلها تدرك شارع القناصل قبل أن يحل الظلام، يراقب الزوجان الفرنسيان غلالة حمراء شفيفة تغطي الأفق على وادي أبي رقراق لتحل محل الشمس الغاربة.

هدوء هذه اللحظات المنفلتة من عقال الزمن يتماهى، في انسجام متناغم، مع العمل الميداني المتواصل الممتد في الزمن. جناحان تحلق بهما العاصمة فوق كل السماوات. يقول الخبير الاقتصادي محمد جدري إن الأشغال في مدينة الرباط، التي تشهد تحولا عمرانيا وبنيويا لافتا، لم تتوقف حتى أضحت البنيات التحتية أكثر جمالية وجاذبية.

وبغض النظر عن حسابات الأرقام الجافة، وعن متطلبات العرض السياحي ومقتضياته، تظل العلاقة التي ينسجها عشاق المدينة مع فضاءاتها الأنيقة “علاقة وجدانية خاصة”. ألم يقل باسكال إن “للقلب دواعيه التي لا يدركها العقل مطلقا”؟ يسأل سعيد، الرجل الستيني، الذي لا يزال يستمتع بأنسام المساء الرباطية في مقهاه الأثير المطل على عالمين مختلفين: الرباط الحديثة بمعمارها العصري الفريد والأخرى العتيقة النظيفة التي تقطر رقة وعذوبة.

هذه المدينة استطاعت المزج بذكاء بين البعد الإداري والبعد السياحي، يؤكد بدر زاهر الأزرق. تؤشر هذه الملاحظة الرصينة على تحول كبير تشهده مدينة الأنوار يرصد بعض تفاصيله الأكاديميون المتخصصون. كلمة السر: السياحة الثقافية تشتبك مع أختها الشقيقة السياحة الترفيهية.

من أين البدء عند الحديث عن المنجز التنموي في عاصمة المملكة الشريفة؟ الحديث يطول، يجيب خبير اقتصادي آخر هو محمد جدري: البنيات التحتية المشيدة وفق أعلى المعايير الدولية والجيل الجديد من الفنادق الحديثة والموانئ الترفيهية.. وهلم جرا.

نحن، إذن، إزاء انبثاق جديد لرباط حديثة ذكية جميلة وأصيلة تستقطب السياح من كل حدب وصوب. هو ذاك، يجيب الأكاديمي الرباطي المكرس نور الدين بلحداد: “إنه المغرب العريق، وانتهى السؤال. عراقة أبي رقراق العظيم.. في موجه يستحم الخلود، بتعبير شاعرنا المغربي”.

أسدل الليل ستاره على الربوع فاشتعلت أضواء مدينة الأنوار. يوم آخر ينقضي في رحلة البحث عن مكامن الجمال في هذه المدينة الساحرة. من أين ينبع هذا السحر الأخاذ؟ سألنا هؤلاء الذين سكنوا الرباط وأولئك الذين سكنتهم الرباط.

كان لسان حالهم يقول، وإن اختلفت عباراتهم،”أنظر إلى الصورة الكاملة!”. صورة مغرب قوي.. واعد وصاعد.. من طنجة إلى الكويرة، تقوده إرادة ملكية حكيمة تستشرف المستقبل وتحقق شروط التنمية الشاملة، بما ينعكس إيجابا في حياة المغاربة في كل مكان.