يا جامعاتنا: علم الأنثربولوجيا ليس مجرد إضافة لعلم الاجتماع

يا جامعاتنا: علم الأنثربولوجيا ليس مجرد إضافة لعلم الاجتماع

قد يبدو ما سأكتبه نوعاً من الترف الفكري والأكاديمي، لا سيما في سياق جامعي تتوالى فيه “الفضائح”، ما خفيَ منها وما ظهر، وفي بلد يُسارع الزمن لجعل منظومته التربوية والتكوينية تُساير آفاق وتطلعات سوق الشغل، كأنه لا دور للتعليم سوى توفير البروليتاريا للمصانع والمنشآت الاقتصادية… وهذا موضوع لن أسهب فيه، لكن الإشارة إليه مهمة، لأن له دوراً في موضوعي الأساسي، المتعلق بواقع “عِلم الإناسة” أو “الأنثربولوجيا”، ومكانته في منظومة التعليم العالي المغربية.

هناك انطباع يسود الوسط التربوي المغربي، مفاده أن خيرة خريجي الثانويات، المتفوقون في الباكلوريا، يتوجهون لمدارس المهندسين وكليات الطب والأقسام التحضيرية… أما المتوسطون فيُقبلون على مدارس التجارة والتسيير والاقتصاد، بينما تُركت كليات الآداب والعلوم الإنسانية ملاذا لمحدودي “الميزة” في الباكلوريا؛ وذوي الآفاق المبهمة مهنياً، وسأوضح قصدي من الإشارة لذلك في الفقرة التالية.

مقالي هذا ينطلق من ملاحظة بسيطة؛ العرض الجامعي في علم الأنثربولوجيا بالمغرب، سواء على مستوى سلك الإجازة أو سلك الماستر، شحيح للغاية ولا يُلبي تطلعات الراغبين في دراسة هذا العلم؛ ربما يعود الأمر لكون جاذبية “العلوم الإنسانية” للعقول النيرة والمتفوقين أصبحت ضعيفة، بناءً على ما أسلفت في الفقرة السابقة؛ ولأن الأنثربولوجيا ليست “عِلماً سهلاً”، يمكن لمن لاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، بعدما أقفلت في وجهه أبواب المدارس العليا، أن يتعامل معه ويحصل من خلاله على شهادة دون مجهود يُذكر، وهو في الوقت ذاته ليست تخصصاً يفتح آفاق هائلة في سوق الشغل… وهنا المعضلة، المتفوقون يبحثون عن دراسة مُثمرة مهنياً، وغير المتفوقين لا قدرة لهم على التعامل مع “العلوم الصعبة”.

لكن الأمر أعقد مما أسلفت، فـ”تهميش” الأنثربولوجيا في عرضنا الجامعي ليس مرده فقط لقلة “الطلب” عليها، بل ينم أيضاً عن فهم مُتقادم لماهية هذا العلم، يُصوره كمُجرد “ملحقة” لعلم الاجتماع؛ فمثلما توجد سوسيولوجيا حضرية وأخرى قروية، ومثلما هناك علم اجتماع تربوي وعلم اجتماع ديني، فإن “الأنثربولوجيا هي سوسيولوجيا الشعوب البدائية”، كما يُعتقد. وهذا المعتقد في تصوري من بين الأسباب الرئيسية لكون الأنثربولوجيا تقتصر عادة على وحدة أو وحدتين (من بين 30 وحدة تقريبا) ضمن شعبة علم الاجتماع في سلك الإجازة.

هذا التعريف الاختزالي المتقادم له ما يبرره في تاريخ العِلمين، لكن لم يعد له أي تبرير من الناحية الإبستمولوجية.

فالمدرسة الفرنسية في العلوم الاجتماعية، التي تتلمذت الأكاديميا المغربية في كنفها؛ هي التي رأت في الأنثربولوجيا وسيلة لدراسة المجتمعات البدائية ذات البنى التقليدية البسيطة، الغارقة في الطقوس والخرافات؛ بينما تهتم السوسيولوجيا بدراسة المجتمعات الصناعية المعقدة والعقلانية.

ولذلك فإن أبرز الأنثربولوجيين عبر التاريخ، على غرار كلود ليفي ستراوس وبرونسلاف مالينوفسكي بل حتى فنسنت كرابانزانو، وجدوا في شعوب الجُزر والبلدان الإفريقية وبعض المناطق النائية بأمريكا الجنوبية، التي لم تتمكن منها الحضارة الغربية وثقافتها، مجالا لأبحاثهم، بينما أعتد السوسيولوجيين (إميل دوركيم، ماكس فيبر، كارل ماركس…) اشتغلوا على مُجتمعات أوروبا ما بعد الثورة الصناعية.

حتى الاستعمار حين قرر فهم الشعوب المقيمة على الأراضي التي يطمح لاستغلالها قبل الدخول عسكرياً، سلط عليها أنثربولوجييه كجبهة أولى لمعركة التوسع الإمبريالي بنفس المنطق المذكور أعلاه (أنتم أقل من إزعاج سوسيولوجيينا الأجلاء، سندرسكم أنثربولوجياً فقط).

صحيح أن بين العِلمين تقاطعاً كبيراً كذلك، خصوصاً على مستوى المناهج، وهو ما جعل العديد من علماء الاجتماع يمارسون الأنثربولوجيا أيضاً؛ لكن التقاطع بين الغناء والرقص، وممارسة فنان واحد لكليهما، لا يجعل منهما قط الشيء ذاته.

الأنثربولوجيا هي علم الإنسان، بمعنى أنها العلم الذي يهتم بدراسة الإنسان في مختلف أبعاده، بما فيها الاجتماعية والثقافية (وهنا تقاطع آخر بينها وبين علم الاجتماع)، لكنها لا تقتصر على ذلك فحسب؛ إذ من بين فروع الأنثربولوجيا ما يُعرف بـ”الأنثربولوجيا الإحيائية” أو البيولوجية، وهذا الفرع يهتم بدراسة تطور الإنسان من الناحية الفيزيائية، جسدياً وعقلياً، معتمداً على معارف علوم البيولوجيا والتطور. ولعل من يعرف علم الاجتماع، الذي لا يزال خاضعاً، ولو نسبياً، للبراديغم الدوركايمي “تفسير ما هو اجتماعي بما هو اجتماعي” يدرك أنه يستحيل على عالم الاجتماع أن يشتغل بعلم البيولوجيا كما يفعل الأنثربولوجي.

وعلى ذكر إميل دوركايم، الذي يُعد من مؤسسي علم الاجتماع الحديث، بحيث قعّد له وبذل جهده لتمييزه عن علم النفس، وإثبات مشروعيته في الاستقلال عن هذا الأخير، سيمتعض جداً لو سمع بأن سوسيولوجياً ما يشتغل بمناهج وأطاريح علم النفس؛ وهذه “العقدة التأسيسية” غير مطروحة على الأنثربولوجي بتاتاً، الذي يحق له دون مركب نقص الاشتغال بمعطيات علم النفس في تأويله للشرط الإنساني ورموز الحضارة البشرية وثقافاتها، كما فعل الأمريكي كرابانزانو بالمناسبة في دراسته لطائفة حمادشة المغربية مستثمرا معارفه في التحليل النفسي.

ليس في كلامي أي تقليل أو تبخيس لعلم الاجتماع؛ فهو الآخر متمتع بخصوصياته ويتعامل مع بنيات معقدة جداً وقضايا حارقة وراهنة، في الزمن الفعلي، بينما تملك الأنثربولوجيا ترف العودة إلى الماضي البعيد للإنسانية لتفكيك ظواهر الحاضر. ما أرمي إليه فقط هو الدفاع عن “الحق في الأنثربولوجيا” في جامعاتنا، بشكل مستقل عن شُعَب علم الاجتماع.

ولعلي لستُ أول من انتبه للأمر، فقد شهدت السنوات الأخيرة إحداث أول ماستر للأنثربولوجيا بجامعة محمد الخامس بالرباط، كما تفضلت جامعة ابن طفيل بالقنيطرة بإحداث شعبة للأنثربولوجيا في سلك الإجازة… وهذه مبادرات تبشر ببداية الوعي الأكاديمي باستقلال الأنثربولوجيا عن علم الاجتماع، مما يفرض إحداث شعب علمية متخصصة فيها؛ إلا أن العرض ما يزال أقل بكثير من المطلوب، وما زالت معظم كليات العلوم الإنسانية بالمغرب تفتقر إلى شعبة للأنثربولوجيا لا في سلك الإجازة ولا الماستر.

الجامعة مشتل للعلم والعلماء، وليس لليد العامل فقط، هناك طلبة يرغبون في دراسة العلوم الإنسانية لاعتبارات فكرية وعلمية، لا خُبزية، وهؤلاء غير مُطالبين بـ”القبول بالموجود” أو بالخضوع لضغط تكييف الوسط الجامعي مع متطلبات سوق الشغل الذي تسير فيه الدولة.