الأمازيغية: من تراث التاريخ إلى تحديات المستقبل

رغم ما تحقق للحقوق الثقافية واللغوية الأمازيغية من مكاسب قانونية، سياسية، مؤسساتية ورمزية خلال العقدين الأخيرين، لا يزال الفاعل الأمازيغي، في كثير من الأحيان، حبيس خطابٍ ماضوي يغلب عليه طابع “المظلومية التاريخية”.
ورغم أهمية استحضار الماضي لفهم الحاضر واستشراف المستقبل، فإن جعل التاريخ مرتكزا رئيسيا للرؤية الثقافية والسياسية المتعلقة بالأمازيغية يفضي غالبا إلى تحويل النقاش من مشروع لغوي وتنموي إلى مرثية متكررة، لا تخدم في نهاية المطاف جوهر القضية.
لا شك أن إنكار وجود الأمازيغية كان واقعا سياسيا موثقا، كما أشار إلى ذلك الباحث عبد اللطيف أكنوش في مقدمته لكتاب: “المسألة الأمازيغية بالمغرب: من المأسسة إلى الدسترة”. هذا الإنكار، الذي ظهر بوضوح منذ صدور “ظهير 16 ماي 1930″، واتسع مع تأسيس “الدولة الوطنية”، خلف آثارا عميقة على السياسات العمومية التي همشت الأمازيغية لعقود. غير أن التوقف المستمر عند هذه اللحظة التاريخية لا يجب أن يتحول إلى أساس في التفكير بشأن مستقبل اللغة والثقافة الأمازيغيتين. لماذا؟
لأن الاستغراق في خطاب “المظلومية التاريخية”، أو التمجيد المبالغ فيه للماضي فيما يشبه “أصولية أمازيغية” جديدة، يفقد النقاش فعاليته وجدواه. اليوم، تحققت مكاسب مهمة للأمازيغية، هناك وضع دستوري جديد متقدم، وقانون تنظيمي يؤطر تفعيل طابعها الرسمي في التعليم وفي مختلف مناحي الحياة العامة، وحضور في السياسات العمومية…
كما تنتظرها رهانات حقيقية في مجالات التعليم، والإعلام، والقضاء، والإنتاج الثقافي والمعرفي. لذا، فإن المطلوب هو توجيه الجهود نحو المستقبل، انطلاقا من هذه الأرضية، لا العودة المستمرة إلى نقطة الانطلاق.
في هذا السياق، يتحمل الفاعل الأمازيغي مسؤولية جوهرية في الدفع بالأمازيغية نحو آفاق جديدة، وعلى رأسها فضاء المعرفة والإنتاج العلمي. فاللغة لا ترسخ بمجرد ترسيمها، بل من خلال تفعيلها في ميادين الإبداع والفكر، والمجتمع العلمي والثقافي مدعو اليوم إلى المساهمة في تطوير محتوى أكاديمي بالأمازيغية في مجالات الفلسفة، والعلوم، والآداب، باستخدام حروف تيفيناغ، وبطريقة تتناسب مع المتلقي، بهدف تجاوز الحاجز النفسي واللغوي وتعزيز المصالحة المحتمعية مع اللغة.
الأهم من ذلك، يجب أن ينتقل النقاش من الخوف من “الانقراض” إلى الطموح بجعل الأمازيغية لغة جاذبة، قابلة للتعلم حتى من غير الناطقين بها. فالقوة الحقيقية للغات لا تقاس بعدد متحدثيها فقط، بل بنوعية المعرفة المنتجة بها. وعندما ننجح في إنتاج رصيد علمي وأدبي محترم باللغة الأمازيغية، يمكننا حينها الحديث عن أفق عالمي لها، وعن انتقالها من لغة تراث وهوية إلى لغة إنتاج ومساهمة حضارية.
ولا يمكن لهذا التحول أن يتحقق دون دور فعال للدولة ومؤسساتها. ومع ذلك، فالمسؤولية ليست حكرا على الجهات الرسمية. للفاعل الأمازيغي، من داخل المجتمع المدني والمؤسسات التشاركية، دور اقتراحي أساسي في صياغة السياسات اللغوية، وممارسة الضغط البناء لتفعيل المقتضيات الدستورية.
إن أولى المطالب الواقعية التي ينبغي أن يجمع عليها الجميع هي تسريع تنفيذ القانون التنظيمي المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية، والانتقال الجاد إلى تعميم تدريسها في جميع مراحل التعليم. لكن هذا التعميم يجب أن يتجاوز الطابع الرمزي أو الشكلي، ليغدو سياسة لغوية شاملة ومتكاملة، قادرة على تكوين جيل من المتحدثين الذين يقرؤون ويكتبون وينتجون بهذه اللغة.
علينا أن ندرك أن تكوين هذا الجيل ليس مسارا آنيا، بل مشروع طويل الأمد يتطلب استمرارية في الجهود التربوية والثقافية. ومن هنا، فإن الاعتقاد بأن الأمازيغية في وضعها الحالي قادرة على أداء وظائف التدريس الجامعي أو إنتاج معرفة علمية متقدمة، هو تصور غير واقعي، وقد يفضي إلى نتائج عكسية.
فاللغة لا تصبح أكاديمية إلا إذا تمكنت من التعبير عن المفاهيم الفلسفية والعلمية والقانونية المعقدة. ولا تتحول إلى لغة جاذبة إلا إذا أثبتت قدرتها على إنتاج مضامين ذات قيمة. فقط حينها يمكن تخيل تدريس الأمازيغية في جامعات أوروبية أو أمريكية، لا بوصفها لغة تراثية، بل لغة علم ومعرفة.
المطلوب اليوم هو الانتقال من مرحلة المطالب إلى مرحلة الحلول العملية. نعم، مسؤولية الدولة أساسية، لكن الرهان يجب أن يكون جماعيا. فلا النشطاء وحدهم قادرون على النهوض باللغة، ولا المؤسسات الرسمية قادرة على تحقيق ذلك دون شراكة حقيقية مع المجتمع العلمي والثقافي. نحتاج إلى جيل من المترجمين، والباحثين، والمؤلفين الذين يحولون الأمازيغية من لغة تتداول شفويا إلى لغة تنتج معرفة.
وفي نهاية المطاف، تظل القاعدة الذهبية: اللغة التي لا تكتب بها المعرفة، لا تقرأ. وإن لم تقرأ، فلن تعيش. وإن بقيت، فستظل لغة شفوية محصورة في التداول اليومي. لذا، فإن الرهان الحقيقي هو رهان على الفعل لا على الشعور، وعلى الإنتاج لا على التنديد.
الأمازيغية بحاجة إلى من يكتب بها، لا من يكتب عنها فقط. إلى من يؤلف ويترجم ويفكر بها، لا من يكتفي بالحديث عن “مكانتها التاريخية”. حين ننجح في تحويلها إلى لغة إنتاج معرفي، نكون قد رفعناها إلى مصاف اللغات القادرة على الإسهام في الحضارة الإنسانية، لا فقط في سردية الهوية.
د. مصطفى عنترة، كاتب صحفي.