زاوية “سيدنا بلال” في الصويرة: عندما ندد المغاربة بالعبودية واستنجدوا بمؤذن الرسول

زاوية “سيدنا بلال” في الصويرة: عندما ندد المغاربة بالعبودية واستنجدوا بمؤذن الرسول

على ضفاف المحيط الأطلسي، وبالقرب من أسوار مدينة الصويرة، تنتصب زاوية “سيدنا بلال” شاهدة منذ أزيد من قرنين على أهوال العبودية، وحاكية لزوارها قصة شريحة من المغاربة الذين جُلِب أجدادهم قهراً من بلدانهم جنوب الصحراء الكبرى للاشتغال في أعمال السخرة، لا لشيء إلا لاسمرار ألوان بشراتهم، فلم يجدوا من يستجيرون به من ظلم جلاديهم وقسوة ظروفهم سوى “أشرفهم”، مؤذن النبي محمد بن عبد الله (ص).

السبت 21 يونيو 2025؛ الأشغال تجري على قدم وساق لتهيئة الفضاء وهندسة الصوت داخل باحة زاوية سيدنا بلال بالصويرة لاحتضان “لِيلة” كناوية تقليدية، بعيداً عن “حداثة” منصات مهرجان “كناوة وموسيقى العالم”، حيث تختلط تاكناويت الأصيلة بأنماط موسيقية حديثة بعضها أجنبي.

طرقت جريدة “مدار 21” باب الزاوية البالي، فاستقبلها رجل يبدو في ستينيات عمره، مُبتسماً متواضع الهندام بهي الطلة والمُحيا، أبى إلا أن يأخذنا في جولة عابرة للمكان والزمان، بين ردهات الزاوية وفي ثنايا تاريخها الشاهد على مآسٍ لا تمت بصلة إلى الطابع الفرجوي والفني الذي طغى على “تاكناويت” الحديثة.

باحة مرصعة بزليج يبدو أنه شاخ واهترأ بفعل الزمان، تحيط بها أقواس شامخة مطلية بالأخضر والأحمر رموز العلم المغربي؛ يقول السيد محمد الذي قدم لنا نفسه بأنه زوج “مقدمة” الزاوية. لا سقف سوى عنان الفضاء، في رمزية مكثفة تظهر أن زائر الزاوية تربطه علاقة مباشرة بالخالق في عليائه وألا وسيط بينه وبين توسلاته للمولى عز وجل.

في الطابق الأول قاعة متواضعة، طرازها المعماري مغربي ومؤثثة بصور فوتوغرافية لأبرز “المعلمين” الكناويين الذين سبق وأحيوا “لِيلات” في الزاوية البلالية؛ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، ذلك أن الزاوية تحتضن هذا النوع من الفعاليات الطقوسية منذ قرنين ونيّف، خاصة خلال شهر شعبان من كل سنة هجرية موعد الموسم السنوي للطائفة الكناوية.

ثم في الطابق الموالي (السقف) إطلالة بهية على البحر؛ “هنا على ضفاف البحر كان يوجد ضريح سيدي بوريشة؛ قبل تشييد الزاوية بمدة طويلة، حيث اعتاد الكناويون على إحياء الليلات” يوضح محمد؛ مضيفاً “أما قصة الزاوية فهي أنّ سيدة ثرية من المنطقة كانت عقيماً؛ فقررت تقديم ذبيحة وإحياء حضرة كناوية، و’جاب الله التيسير’، فمن فرط سعادتها وسعادة زوجها قررا شراء الأرض المجاورة لسيدي بوريشة وتقديمها هِبة لكناوة ليقيموا عليها زاويتهم”.

لكن لماذا تسمية الزاوية بـ”زاوية سيدنا بلال”، إذا كان بلال بن رباح الحبشي، أول مؤذن في تاريخ الإسلام، لم يسبق له أن أقام بالزاوية أو حتى وصل إلى المغرب؟

في هذا الصدد يوضح أستاذ الأنثربولوجيا بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، كمال فريالي، أن “كناوة” شأنهم شأن باقي طوائف الجذب الروحاني المغربية كانوا بحاجة للانتساب إلى ولي صالح؛ فإذا كان “عيساوة” ينتسبون للشيخ الكامل الهادي بن عيسى، و”حمادشة” لسيدي علي بن حمدوش، وجيلالة إلى “مولاي عبد القادر الجيلاني”، فإن كناوة لم يجدوا خيراً من الانتساب لأول رجل زنجي اعتنق الإسلام، مؤذن الرسول بلال بن رباح.

هذا الاختيار الرمزي ليس عشوائياً؛ فـ”كناوة” هم العبيد وأبناؤهم وأحفادهم؛ الذين جيء بهم للمغرب إثر حملة السلطان أحمد المنصور الذهبي على إمبراطورية “سونغاي”، التي كانت قائمة بالمنطقة الممتدة على مالي والنيجر وبوكينافاسو الحالية؛ وهي حملة عسكرية أفضت إلى تدمير تلك الإمبراطورية أواخر القرن السادس عشر الميلادي، وبالتالي سبي عدد هائل من العبيد في ظروف مزرية عبر الصحراء الكبرى، ليُستعبدوا ويباعوا في أسواق النخاسة بالمغرب؛ وفق ما يرويه المؤرخ شوقي الهامل في كتابه “المغرب الزنجي: تاريخ العبودية والعرق والإسلام” (Black Morocco: A History of Slavery, Race, and Islam) .

لم يكن هؤلاء يعيشون في أفضل الظروف، حتى مع اعتناقهم للإسلام، فقد كان كافياً أن يكونوا أجانب وذوي بشرة سمراء ليعاملوا من قبل إخوتهم في الدين معاملة حاطة بالكرامة؛ ذلك ما يستشف من احتجاج العالم والفقيه السوداني الشهير، أحمد بابا التمبوكتي، الذي عاصر هذه الأحداث متم القرن 16.

وكان التمبوكتي قد احتج في مراسلة شديدة اللهجة وجهها للسلطان أحمد المنصور الذهبي يقول فيها “… وبهذا يظهر لك شناعة ما عمت به البلوى ببلاد المغرب من لدن قديم من استرقاق أهل السودان مطلقاً، وجلب القطائع الكثيرة منهم في كل سنة وبيعهم في أسواق المغرب حاضرة وبادية، يسمسرون بها كما تسمسر الدواب بل أفحش، قد تمالأ الناس على ذلك وتوالت عليه أجيالهم حتى صار كثير من العامة يفهمون أن موجب الاسترقاق شرعاً هو اسوداد اللون وكونه مجلوباً من تلك الناحية، وهذا لعمر الله من أفحش المناكر وأعظمها في الدين، إذ أن أهل السودان قوم مسلمون فلهم ما لنا وعليهم ما علينا”؛ وقد كلفته هذه المراسلة غضبة سلطانية عرضته للسبي نحو المغرب هو الآخر ومصادرة ممتلكاته.

وليست الزنوجة المبرر الوحيد للتيمّن ببلال بن رباح الحبشي، فقد كان بلال من أوائل من أسلموا في مكة، وعُرف بصبره على التعذيب بسبب إيمانه؛ وفي ذلك إشارة على عمق الاختيار ونزعة العزاء فيه؛ فالمؤمن كلما زاد إيمانه زاد ابتلاؤه.

وبعيداً عن هذه الجروح التاريخية التي قد لا تكون التأمت بعد، وتحتاج مزيدا من الاهتمام العلمي بل حتى السياسي، لا سيما في ظل انفتاح المغرب خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير على عمقه القاري؛ (طُرفة) حكاها زوج “مقدمة” زاوية سيدنا بلال لجريدة “مدار21″، جواباً عن سؤال حول أصول “كناوة” ورقصاتهم الشهيرة؛ مفادها أن ابنة الرسول محمد (ص)، السيدة فاطمة الزهراء، كانت حزينة ذات مرة، وأن بلال بن رباح حين انتبه للأمر حاول الترويح عنها وإدخال السرور إلى قلبها، فأدى أمامها رقصات أفريقية من بلاده (الحبشة) نالت إعجابها وأضحكتها، ومنذ ذلك الحين يستلهم الكناويون رقصاتهم من أول رجل أفريقي أسمر اعتنق دين الإسلام”.

بالطبع، فإن هذه الحكاية مُتخيلة على الأرجح ولا سند لها في متون التاريخ النبوي أو الإسلامي، ولكنها ككل الحكايات تحمل أبعاداً مجازية ورمزية مثيرة للاهتمام بالنسبة للبحث الاجتماعي، والأنثربولوجي خصوصاً، الذي يُعلم أنّ “السخرية من الخطابات اللاعقلانية” ليست سلوكاً عِلمياً رصينا ولا موقفاً يساعد الباحث على فهم الظواهر الطقوسية والدينية، وإنما التواضع أمامها وإظهار الاحترام لمن يؤمنون بها كحقائق.