الصحراء المغربية: من إدارة الوضع إلى حركة التغيير.. دور مجلس المستشارين في تشكيل الدبلوماسية البرلمانية الهادئة

في ظرفية دولية حبلى بالتحولات والتقلبات المفاجئة، وأوضاع إقليمية وقارية موسومة بالاضطراب وعدم اليقين، تبرز الدبلوماسية البرلمانية المغربية كصوت ثانٍ نوعي للديبلوماسية الرسمية، تسعى جاهدة إلى ترجمة اختيارات المملكة الاستراتيجية، والتموقع في فضاء العلاقات الدولية كقوة ناعمة واعية بأدوارها، متمرسة في خطابها، ومتجذرة في ثوابتها.
وليس من قبيل الصدفة أن يَشهد مجلس المستشارين دينامية استثنائية غير مسبوقة في هذا المضمار، تجعل منه اليوم أحد أعمدة الدفاع عن السيادة الوطنية، وعن قضية المغرب الأولى ، قضية الصحراء المغربية.
ومن نافلة القول التأكيد على أن منجز مجلس المستشارين في هذا الباب لا يمكن أن يُقرأ خارج السياق العام الذي رسم ملامحه الكبرى جلالة الملك محمد السادس نصره الله، في خطابه السامي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية، حيث أكد على ضرورة تجاوز منطق التدبير إلى منطق التغيير، داعيا المؤسسات الدستورية، وفي طليعتها المؤسسة البرلمانية، إلى الارتقاء بأدائها، وتعزيز تموقعها في الواجهة الوطنية والدولية.
وقد التقط مجلس المستشارين هذا التوجيه الملكي السديد وتفاعل معه بأجوبة مؤسساتية أهلته ليكون، عن جدارة واستحقاق ، فاعلا دبلوماسيا محوريا، يُحسن الإصغاء إلى التحولات في جزئياتها الدقيقة، ويستشرف المآلات، ويبدع في صناعة التحالفات المثمرة، ويُتقن هندسة الشراكات النوعية جنوبا وشمالا.
لقد انخرط المجلس، في حركة دبلوماسية نشطة، قادته إلى أمريكا اللاتينية والكاراييب، إلى باريس ولندن، إلى دول غرب إفريقيا ووسطها، في انفتاح واعٍ ومدروس على قوى برلمانية صاعدة، ومراكز جيوسياسية فاعلة.
ولم يكن هذا الحراك الدبلوماسي المكثف مجرد سلسلة من اللقاءات البروتوكولية او العابرة، بل كان تجسيدا عمليا لمفهوم جديد للدبلوماسية البرلمانية، يجعل من المجلس فضاء للترافع الاستراتيجي، ومن السيدات والسادة المستشارين سفراء مؤثرين لقضية الوحدة الترابية للمملكة.
لقد استطاع المجلس، من خلال حضوره القوي والفاعل في مختلف المحافل البرلمانية الإقليمية والدولية وتنويع علاقاته الثنائية مع الدول الصديقة والشقيقة ، أن يكون مقنعا في أدائه صادقا في خطابه، مساعدا بذلك في تكريس شرعية مبادرة الحكم الذاتي كحل وحيد وجدي وواقعي للنزاع المفتعل حول الصحراء المغربية، وأن يعزز ويوسع شبكة الدعم الدولي للموقف المغربي، كما فعل مع برلمان البيرو، وبرلمان أمريكا اللاتينية والكاراييب، والبرلمان الأنديني وباقي التكتلات البرلمانية الإقليمية في أمريكا اللاتينية، وكذا برلمان المجموعة الاقتصادية لوسط إفريقيا، وغيرها من المؤسسات البرلمانية ذات التأثير المتزايد، بل إن المجلس صار مركز ثقل في الحوارات البرلمانية العابرة للقارات.
وإذا كانت بعض العواصم التقليدية ما زالت تتلكأ في تبني مواقف صريحة تجاه قضية الصحراء، فإن مجلس المستشارين، وبفضل الريادة الدبلوماسية الملكية، استطاع أن يترك بصمته الخاصة ويفتح نوافذ جديدة ومسارات أخرى في الجغرافيا البرلمانية الدولية، من شأنها الاسهام في إعادة رسم خريطة التوازنات لصالح المغرب، وتكريس محورية الرباط كقبلة وعاصمة للدبلوماسية البرلمانية جنوب–جنوب، كما أكد ذلك، مؤخرا، رؤساء أربع تجمعات برلمانية إقليمية وازنة في أمريكا اللاتينية.
إننا إذن أمام تحول نوعي، لا في مضمون الخطاب وشكله فقط، بل في منهجية الأشغال ومقاربات التعاطي مع قضية حيوية ، فالدبلوماسية البرلمانية التي يقودها مجلس المستشارين لم تعد رهينة المواقف الدفاعية، بل تبنّت منطق المبادرة وانتهجت طريق الإقدام، وراكمت تجارب مؤسساتية جديدة ملهمة وجديرة بالتنويه والاشادة.
ولعل من المفيد في هذا السياق التذكير بإطلاق منتدى مراكش الاقتصادي البرلماني للمنطقة الأورومتوسطية والخليج العربي ، والمنتدى البرلماني المغربي–الفرنسي، والمنتدى البرلماني المغرب–أمريكا اللاتينية والمنتدى البرلماني المغربي الموريتاني الذي عقد دورته الأولى مؤخرا بالعاصمة نواكشوط، إضافة إلى عضوية المغرب في “التحالف البرلماني من أجل المناخ والانتقال العادل”، ومنتدى الحوار البرلماني جنوب-جنوب الذي يسعى إلى تعميق الحوارات البين إقليمية والقارية بدول الجنوب كرافعة أساسية لمجابهة التحديات الجديدة للتعاون الدولي وتحقيق السلم والأمن والاستقرار والتنمية المشتركة”.
إنها آليات وفعاليات منتظمة جعلت من الدبلوماسية البرلمانية أداة لبناء التحالفات الاستراتيجية لا فقط دفاعا عن القضية الوطنية، بل أيضا دعما لمسارات التنمية المستدامة والأمن الطاقي، والعدالة المناخية، والتعاون الثقافي والأكاديمي والتبادل الإنساني.
ولعل ما يميز هذه الدينامية البرلمانية هو انسجامها الكامل مع العقيدة الدبلوماسية للمملكة، التي يقودها ويرعاها جلالة الملك محمد السادس، حيث يشكل التعاون جنوب–جنوب أحد أعمدتها الرئيسة.
كما أن المجلس، في إطار النهج الديبلوماسي الجديد الذي سار على منواله في الآونة الأخيرة، والمرتكز على إعمال مقاربة التعاون جنوب-جنوب في الدفاع عن القضية الوطنية الأولى، حرص بنفس الاهتمام والجدية على إعطاء مدينة العيون، حاضرة الأقاليم الجنوبية للمملكة ، مكانة سامقة ومنزلة رفيعة في فعله الديبلوماسي وجهده الترافعي المتميز.
إن المغرب، من خلال مجلس المستشارين ، يؤسس لنموذج جديد من العلاقات الدولية، يقوم على الاحترام المتبادل، والتضامن الفعّال، وتقاسم الخبرات، وتبادل المنافع، وهو ما يتجسد في مشاريع هيكلية ملموسة كميناء الداخلة الأطلسي، وأنبوب الغاز المغربي–النيجيري، والمبادرة الأطلسية ، وكذا سياسة الانفتاح على برلمانات أمريكا اللاتينية والاتحاد الإفريقي، بما يكرّس أقاليمنا الجنوبية كبوابة استراتيجية نحو إفريقيا وأمريكا اللاتينية والفضاء االأطلسي وصلة وصل مع شمال المتوسط.
وفي ظل هذا المنعطف الحاسم من تاريخ القضية الوطنية حيث بدأت تلوح في الافق المنظور تباشير إنهاء النزاع المفتعل وتكريس مغربية الصحراء، يثبت مجلس المستشارين أن الدفاع عن الصحراء لا يمر فقط عبر دهاليز الأمم المتحدة، بل عبر استثمار كل الأدوات الناعمة، وفي مقدمتها البرلمان، باعتباره سلطة تشريعية وترافعية وتمثيلية، قادرة على كسب المعارك الرمزية والمعنوية التي تمهد للانتصارات السياسية الكبرى.
إن الدبلوماسية البرلمانية، كما يمارسها مجلس المستشارين اليوم، أضحت خيارا استراتيجيا متقدما لا مندوحة عنه، يجسد الانتقال الفعلي من التدبير إلى التغيير، ويعيد الاعتبار لصوت الشعوب في معركة الدفاع عن العدالة والشرعية. وإن كانت قضية الصحراء هي ميزان المغرب في قياس مصداقية المواقف والأفعال الصادرة عن الدول والمنظمات ، فإن المجلس قد أثبت أنه في قلب المعركة، بجاهزية خطابية، وفعالية مؤسساتية، وشبكة علاقات ممتدة، ومرجعية وطنية صلبة.
إن المعركة، اليوم، هي أساسا معركة تواصل وشرح وإقناع، ومجلس المستشارين ، يخوض هذه المعركة بكل ما تقتضيه من حكمة، وجرأة، ووعي تاريخي بعدالة القضايا المغربية وبالمكانة الإستراتيجية الوازنة لبلادنا في محيط إقليمي ودولي لا يفتأ يعرف التقلبات تلو الأخرى في كل جهات العالم.