خريسات يكتب: عندما تتغير الفطرة: بين فوائد المعروف وأهداف الإحسان

خريسات يكتب: عندما تتغير الفطرة: بين فوائد المعروف وأهداف الإحسان


مدار الساعة -كتب: أ. فراس خريسات – في لحظةٍ من صدق، جلس صديقٌ لي يشكو بمرارة:”ندمتُ على المعروف الذي قدّمتُه… ما رأيتُ منه إلا الجحود.”كان صوته مشحونًا بخيبة، كأنما صفعته الحياة بعدما ظنها ستصافحه بالشكر.وهنا خطر في بالي سؤال:*من أين جاءت هذه الفكرة؟*من علّمنا أن المعروف يجب أن يُقابل بشكرٍ فوري، أو أن الامتنان هو الدليل الوحيد على صدق فعلنا؟وهل نحن نُحسن ابتغاء وجه الله، أم نُحسن انتظارًا لمقابل؟!*حين يُصبح الموروث قانونًا بدلًا من الوحي*كبرت معنا عباراتٌ تم ترديدها حتى صارت كأنها نصوصٌ مقدسة، ومن أخطرها:*”اتقِ شر من أحسنت إليه.”*يتناقلها الناس كأنها حكمة خالدة، دون أن يتأملوا فيها.فهل الإحسان يولّد شرًا؟ وهل الفطرة الإنسانية بهذا السوء؟الغريب أن تتمة المقولة – التي لا يكاد أحد يذكرها – تقول:*”بكثرة الإحسان إليه.”*أي أن المشكلة في الإفراط غير المنضبط، لا في المعروف نفسه.لكن الناس اعتادت أخذ الشطر الذي يبرر جرحها، ويمنحها مخرجًا من ألم الخذلان.الدين… لا يعلّمنا الجفاءالقرآن الكريم واضحٌ كل الوضوح في بيان مقاصد الإحسان:“إنما نطعمكم لوجه الله، لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا.” [الإنسان: 9]هذا هو الأصل، هذا هو الميزان.نُحسن لأننا نؤمن أن الله هو الذي يرى، وهو الذي يجزي، لا الناس.بل إن الله حذّرنا في كتابه من أن تُبطل أعمالنا الطيبة بما بعدها من منّة أو أذى، فقال:“يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى.” [البقرة: 264]فأعظم ما قد يضيع المعروف هو أن نتبعه بعتاب أو امتهان،فليس الجحود هو الخطر الحقيقي، بل المنّة التي قد تفسد العمل من أصله.ثم جاء الحديث الشريف ليؤكد هذه الحقيقة:“صنائع المعروف تقي مصارع السوء.” (رواه الطبراني في “الكبير” بإسناد حسن )لم يقل مع من يقدّر، أو لمن يشكر، بل قال: “صنائع المعروف” على إطلاقهاالمعروف… أمانٌ إلهي لا يُرىوقد لخّصت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها هذا المعنى حين رأت الاضطراب على وجه النبي ﷺ بعد نزول الوحي، فقالت له في لحظة ثقة لا تهتز: “أبشر، فوالله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتُقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق.” (متفق عليه)كأنها كانت تقول:يا رسول الله، المعروف لا يضيع… والخير لا يخزي صاحبه…فالله لا يخذل من جعل يده ممدودة في قضاء حوائج الناس …*مجير أم عامر … وتزوير الفطرة*يتناقل البعض القصة المعروفة عن الرجل الذي أنقذ الضبع -وحشًا مفترسًا- ، ثم هاجمه لاحقًا.ويقال إنها “قصة أم عامر”، كأنها حجة يبرر بها البعض عزوفهم عن الخير، أو خذلانهم بعد فعل المعروف.لكن هل يُقاس الإنسان على حيوان مفترس؟وهل يُبنى مبدأ إنساني على فطرة افتراسية؟الإنسان مكرم، ومجبولٌ على الخير، والفطرة السليمة لا تُقابل الإحسان إلا بالإحسان.وإن جحد فردٌ أو اثنان، فذلك لا ينقض الأصل، بل يُظهر استثناءً لا يقاس عليه.*الفطرة أصلها النقاء*كل ما هو شاذ لا ينبغي أن يُعامَل كأصل، بل يُعالج كخلل.الصدق هو الأصل، والكذب دخيل.الشكر هو الأصل، والجحود عرضٌ طارئ.والإحسان لا يُفعل انتظارًا لشكرٍ أو مدح، بل يُفعل لأنه منبثق من قلبٍ يعرف الله.في الحديث القدسي:*”يا عبادي، إنما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثم أوفّيكم إياها…”*فلِمَ نطلب المكافأة من الخلق، والله هو الذي يراها ويُحصيها ويجزي عليها؟*دعوة لصحوة الفطرة*فلنُحيِ هذا المعنى في نفوسنا ونفوس أبنائنا:أن المعروف لا يُقاس بردّ فعله، بل بنيّة فاعله.أنك حين تحسن، لا تفعل ذلك لأنك تُراهن على نُبل من أمامك، بل لأنك *تتشرّف بأن تكون أداة للخير في يد الله.*فربما ذلك الذي لم يشكرك، رفع يديه في جوف الليل ودعا لك،وربما الله أراد لك ثوابًا أعظم حين ابتلاك بالجحود، لتنال أجر الصابرين لا أجر الشاكرين فقط.*ختامًا*دعوا المعروف يمضي، دون أن تربطوه بتوقعات البشر.أحسنوا، فالله لا يضيع أجر من أحسن عملًا.وتذكّروا دومًا:*”الدنيا عملٌ بلا حساب، والآخرة حسابٌ بلا عمل.”*فازرعوا اليوم ما تتمنون حصاده غدًا، ولا تعبثوا بفطرةٍ خلقها الله نقية، فجعلها الناس مليئة بالشروط.