الكفيري يتناول: كيف تتحول حرية التعبير إلى ستار للفوضى الرقمية

الكفيري يتناول: كيف تتحول حرية التعبير إلى ستار للفوضى الرقمية


مدار الساعة – كتب: عون كاظم الكفيري – نعيش اليوم في زمنٍ باتت فيه منصات التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من تفاصيل حياتنا اليومية. لكنها، ومع كل ما تحمله من فوائد، أفرزت واقعًا جديدًا يتطلب وقفة تأمل حقيقية. ففي الوقت الذي نحتفي فيه بحرية الرأي والتعبير، نجد أن هذه الحرية باتت تُستغل في بعض الفضاءات الرقمية لتمرير أفكار مرفوضة اجتماعيًا، بل وخارجة تمامًا عن السياق الأخلاقي والديني الذي تربّينا عليه كمجتمع أردني عربي مسلم.لقد لاحظت مؤخرًا انتشار مجتمعات رقمية غير رسمية تُعنى بالشأن الأردني، وقد تحوّل محتواها من النقاش والتفاعل إلى الفوضى القيمية. فقد أصبحت بعض هذه الصفحات أو المجموعات الرقمية مساحات تروّج لأفكار تتعارض مع القيم المجتمعية، مثل المثلية، والإلحاد، والتشكيك بالدين، والسخرية من رموز الانتماء الوطني، تحت مسمّيات خادعة ومضللة، لا تعبّر عن نقاش حرّ بقدر ما تعبّر عن تفكيك ممنهج لهوية الشباب.وما يدعو للقلق أكثر أن الفئة المستهدفة من هذا المحتوى — سواء بقصد أو بدونه — هي فئة الشباب، خصوصًا في الأعمار بين 17 إلى 22 عامًا، الذين يدخلون في البداية بدافع الفضول أو بحثًا عن نقاش، ثم يجدون أنفسهم وسط تيارات فكرية مشوّهة، تمهّد الطريق للانفصال التدريجي عن القيم والمبادئ.في بعض هذه المساحات، يُقدَّم الإلحاد لا كوجهة نظر فردية، بل كمصدر فخر وجاذبية، مصحوبًا بخرافات وافتراءات على الإسلام، وتحقير لكل ما يمثّل الانتماء الوطني والديني. هذا ليس نقاشًا، ولا حرية رأي، بل هو خطاب هدّام مقنّع يتسلل إلى العقول عبر منصات يُفترض أن تكون أداة للفهم لا للفتنة.لقد تحوّلت بعض هذه المنصات الرقمية إلى أدوات لنشر الشك، وزعزعة الهوية، وفكفكة القيم الأخلاقية. والسماح باستمرار هذا النوع من المحتوى من دون رقابة صارمة، يعني ترك شبابنا فريسة سهلة لأفكار مضلّلة، بعضها موجّه بشكل ممنهج، وبعضها ناتج عن غياب التوجيه والفهم الصحيح لحدود حرية التعبير.ومن هنا، أدعو الجهات المختصة إلى تحمل مسؤولياتها تجاه حماية الفضاء الرقمي من الانفلات القيمي، سواء عبر الرقابة، أو تطوير أدوات الإبلاغ، أو حظر الصفحات والمحتوى المسيء الذي يتعارض مع القوانين والقيم العامة للمجتمع الأردني.وفي ذات الوقت، فإن للأسرة دورًا جوهريًا لا يمكن تجاهله. فالمتابعة والتوجيه والتوعية لم تعد خيارات، بل واجبات ضرورية في ظل تسارع التقنيات الرقمية، وتعقّد بيئة التواصل. إن مشاركة الأهل في الحياة الرقمية لأبنائهم، وتوجيههم نحو مصادر المعرفة الصحيحة، يمثل أحد أهم أسس الحماية الفكرية.وهنا، تبرز أهمية التربية الإعلامية والمعلوماتية كخط الدفاع الأول ضد هذا النوع من التضليل. إذ لا يكفي أن نطلب من الشباب التمييز بين الصحيح والخاطئ، بل يجب أن نمنحهم الأدوات لذلك: أدوات التفكير النقدي، والتحليل، والتمحيص، والقدرة على التفاعل الواعي مع ما يُعرض عليهم في الفضاء الرقمي.إن إدماج التربية الإعلامية في المناهج التعليمية، وفي السياسات الشبابية، هو ضرورة وطنية لبناء جيل واثق، مدرك، وقادر على المواجهة الفكرية دون انجرار أو تهديد. إنها ليست رفاهية فكرية، بل ركيزة أساسية لحماية الأمن الثقافي والاجتماعي في زمن العولمة الرقمية.في النهاية، لسنا ضد الحرية، ولسنا مع القمع. نحن مع بيئة حرة مسؤولة، تحترم الرأي، لكنها لا تساوم على الثوابت. الأدوات الرقمية لا بد أن تُستخدم في البناء لا في الهدم، في الوعي لا في التضليل، وفي خدمة المجتمع لا في تفكيكه.