خريسات تكتب: عندما يتحوّل الإلتزام إلى عبء بدلًا من الحب.. الجوانب المخفية للعلاقات غير الآمنة – بقلم: د. شادية خريسات

من واقع عملي اليومي في العيادة النفسية، ألتقي بأشخاص يحملون قلوبًا مثقلة، ليس فقط من الألم بل من التعلّق. ذاك التعلّق الذي يتخفى في ثوب الحب والاهتمام، لكنه في الحقيقة يُنهك صاحبه، ويقيده بسلاسل غير مرئية من الخوف والاحتياج. التعلّق ليس حبًا، بل هو جوع عاطفي، يبدأ غالبًا منذ الطفولة. الطفل الذي لم يشعر بالأمان الكافي، أو الذي لم يجد استجابة دافئة لاحتياجاته، يكبر وفي داخله فراغ يحاول ملأه بأي علاقة تمنحه شعورًا مؤقتًا بالاهتمام. لكنه لا يعرف أن هذا الفراغ لا يُملأ من الخارج، بل يُداوى من الداخل.رأيت في العيادة فتيات ونساء يدخلن علاقات عاطفية مرهقة، يتمسكن بأشخاص لا يمنحونهن إلا الفُتات، ومع ذلك لا يستطعن الانفصال، لأن التعلّق أصبح أقوى من احترام الذات. رأيت رجالًا ينكسرون كلما تأخرت رسالة، أو لم يرد الطرف الآخر على مكالمة، وكأنهم يعودون دون وعي إلى مشاعر قديمة، مشاعر الطفل الذي خاف أن يُترك، أو لم يكن مرئيًا بما يكفي.التعلّق المؤلم ليس حُكمًا نهائيًا، بل هو دعوة داخلية لفهم الذات، ومواجهة الجروح القديمة التي لم تُشفَ بعد. هو نداء من القلب يقول: “أنا أستحق حبًا لا أخاف أن أفقده، وأحتاج علاقة لا تجعلني أنسى نفسي لأحتفظ بوجود الآخر”.في رحلة التعافي من التعلّق، نبدأ بخطوة صغيرة: الوعي. أن ننتبه إلى أنماطنا، أن نسأل أنفسنا لماذا نتمسك، ولماذا نخاف؟ ثم نبدأ بإعادة بناء علاقتنا بأنفسنا، بتقديم الحنان والرعاية لها بدلًا من انتظارهما من الخارج.أنصح دائمًا بأن يكون هناك دعم مهني في هذه المسيرة، فالعلاج النفسي يساعدنا على فهم جذور التعلّق، وعلى بناء علاقات أكثر توازنًا وأمانًا. فالعلاقة السليمة لا تقوم على الخوف من الفقد، بل على الحرية، على أن أكون أنا، وتكون أنت، ونختار البقاء لأننا نريد، لا لأننا نخاف أن نُترك.أؤمن أن التحرر من التعلّق المؤلم لا يعني أن نتخلى عن الحب، بل أن نختار حبًا ناضجًا لا يُشبه الجوع، حبًا يُغذي ولا يُرهق، يُطمئن ولا يُقلق، يُشبع ولا يُعلّقنا بخيوط القلق والخوف.فلنعُد إلى ذواتنا، إلى قلوبنا الصغيرة التي لم تحصل على الأمان يومًا، ولنمنحها ما تستحق: الحضور، الاحتواء، والحب غير المشروط.